هل تفعلها الحكومة وتضرب الحديد حامياً؟
} علي بدر الدين
يسأل أمين معلوف متى تعرف أنك تائه؟ عندما تقف في بلادك وعيناك ترنو الى بلاد أخرى، وعندما تقف في بلاد لم تنشأ فيها وعيناك ترنو الى بلادك، وعندما تبقى في بلادك وعيناك على مستقبل تراه مستحيلاً، عندما تبقى في بلادك وعيناك على ماض لن يعود أبداً.
هذا هو واقع حال الشعب اللبناني التائه والضائع بين البقاء والصمود في وطنه او الرحيل عنه، وفي الحالتين يعيش الحسرة والألم، ويبقى في حيرة وتردّد لا يُحسد عليهما لأنه يقتل روحه ويفقد وطنيته وإنسانيته وهو ما زال على قيد الحياة مفعول فيه وهو غير فاعل ولا تأثير له ولا قرار ولا اعتراف بحقه في العيش بكرامة في وطنه ولا في حريته، وأكثر من ذلك فهو مسلوب الإرادة والفعل وتمّ تدجينه وتقييده برزمة من الضغوط والإجراءات والقرارات والأحكام التي تساهم في ترويضه وتحويله إلى مجرد رقم في صندوق الاقتراع غبّ الطلب أو إلى كومبارس في حفلات الجنون التي تحييها أوركسترا الطبقة السياسية الحاكمة باعتباره يشكل جوقة التصفيق المتواصل عند كل فاصلة او نقطة او كلمة نفاق او جملة خداع جديدة.
هذه الطبقة تعرف جيداً كيف تدوّر الزوايا وتحوّل بيئاتها الحاضنة الى أداة طيّعة بأقلّ الخسائر والمجهود، وكيف تتلطى خلفها لتغطي فسادها وارتكاباتها وتحويلها الى متاريس تصدّ عنها الإهانات والإساءات والاتهامات بمسؤوليتها عما آلت اليه الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية من سوء وتردّ وانهيارات وإفقار للناس وتجويعهم وحرمانهم من أدنى حقوقهم ثم ترمي التهم والمسؤولية على مافيات السوق السوداء في تجارة الدولار وارتفاع سعر صرفه مقابل العملة الوطنية التي لم تعد لها قيمة ولا قوة شرائية، او في تجارة المحروقات عموماً والمازوت تحديداً الذي يتبخر من السوق وفق وزير الطاقة الذي يسأل الناس كيف يتبخر مع أنه المعني مباشرة بالسؤال والإجابة والفعل الذي يضع حداً لمرتكبي جرائم السرقة وكشفهم ومعاقبتهم.
ألا يحق لهذا الشعب الهائم على وجهه والمتعب والمقهور الذي حلت ببلده مصائب الدنيا وتحكمه طبقة سياسية أكل الدهر عليها وشرب بعقلية إقطاعية ومتحجّرة وكأنها من الماضي الغابر ان يتنفس ويفكّ القيود التي تلتفّ حول رقابه وتشلّ عقله ويديه؟ ألا يحق له أن يحلم بالأفضل والخروج عن الطاعة العمياء لمن يعتبرهم أولياء النعمة؟ ألا يحق له أن يفكر حتى مجرد التفكير بالهجرة وترك جمل لبنان بما حمل له من فقر وجوع وذلّ وقهر؟
وكيف له أن يبقى في وطنه وحكامه هم أنفسهم منذ ٣٠ سنة وأكثر ويُمعنون فيه جلداً ونهباً وتحاصصاً وفساداً حتى أفرغت خزينة الدولة من مال الشعب وسُرقت أموال أكثر من مليوني مودع في المصارف وأصبحت جيوب المواطنين خالية بفضل مافيات التجار وحيتان المال ومافيات الدولار والمازوت وتواطؤ الطبقة السياسية وتخلف أهل السلطة عن القيام بواجباتهم وتحمّل مسؤولياتهم ماضياً وحاضراً.
كيف لهذا المواطن الذي يتحمّل ضغوطاً وأعباء منذ أن تشكل هذا النظام السياسي الطائفي والمذهبي البغيض تعجز عن حملها الجبال حتى بلغ مرحلة بات يعجز فيها عن تأمين أدنى متطلبات العيش من المأكل والمشرب والطبابة والتعليم وتحوّل الى عاطل من العمل يبحث عن لقمة عيشه وأطفاله من دون طائل فيقصد أكوام النفايات المتاحة أمامه عله يحظى ببقايا طعام يسدّ فيها جوع الأطفال الذين ينتظرون عودة معيلهم لـ «التنعّم» بما يحمله لهم!
كيف لهذا الشعب ان يصدّق الحكام ويثق بهم ويعوّل عليهم وقد حرموه من كهرباء الدولة، وهو وحده ضحية سياسة الفساد والمحاصصة والصفقات والبواخر والفيول؟ ورغم ذلك لبنان اليوم من دون كهرباء يعني الشعب في العتمة الكلية بعد أن أطفأ أصحاب المولدات محركاتهم بحجة فقدان مادة المازوت وهي طبعاً مجرد ذريعة لا أساس لها لأنّ المادة متوفرة في خزانات محطات المحروقات والمافيات وتباع في السوق السوداء من أصحاب المحطات والمولدات لأنها مربحة ومن دون وجع الراس. والماء مقطوعة لأنها مرتبطة بالتيار الكهربائي، وسعر صرف الدولار يرتفع وأصبح لكلّ سلعة سعر صرف خاص، سعر لغيار السيارات وآخر للمستشفيات وكذلك للأدوية وللطلاب وغيرها الكثير، وقيمة العملة الوطنية بالحضيض والنفايات تملأ الشوارع والأسعار ترتفع وانْ تراجع سعر صرف الدولار والسلع المدعومة المتوفرة سرعان ما تتبخر او يتمّ التلاعب والاحتيال على المواطن لرفع سعرها او تختفي فجأة وتخبّأ في المستودعات. وكورونا يضرب مجدداً وتتوسّع دائرة وبائه وخطره؟ ولا ندري لماذا الحكومة مسترخية اتجاه ما يحصل.
حتى الآن لا مؤشرات ولا أمل بالأفضل في الآتي من الزمن، لأنّ الوعود لا تزال بالنسبة للمواطن وعوداً كاذبة ومزيفة وخادعة، وبدل أن يتحوّل المشهد نحو الأفضل فإنه يزداد تعقيداً وعقماً في المعالجات وتفاقماً في الصراعات والخلافات بين المكونات السياسية في الموالاة والمعارضة والهروب الى القضايا الاستراتيجية الكبرى والمعقدة التي تحكمها المصالح الدولية، إما لأنها عاجزة وفاشلة وفاسدة وغير قادرة حتى على تأمين رغيف الخبز والماء والكهرباء ولا كما هي تدّعي بعدم معرفة تجار السوق السوداء كأنهم أشباح او سحرة وهم ربما يعيشون وسطهم وتربيتهم ومن الحاشية.
فعلاً كفى فساداً ونهباً وتحاصصاً وخداعاً ونفاقاً على هذا الشعب الذي عن غباء او جهل او مصلحة وضيعة يعيد إنتاجكم ولم يتعظ بما يتعرّض له من قهر وذلّ وتفقير وتجويع، ولم ينتفض على جلاديه الذين لا يزالون مُصرّين على سلوكهم الجارف حتى ولو كانوا على فراش الموت.
انّ حكومة مواجهة التحديات ليست بمنأى عن الاتهام بأنها لغاية اليوم لم تقدّم شيئاً يمكن التباهي به واعتباره نموذجاً أو عيّنة لما هو متوقع ومرتقب منها، وليس كافياً تكثيف جلسات مجلس الوزراء وتشكيل اللجان وكثرة المستشارين وإصدار قرارات وانْ كانت مطلوبة ولكنها من دون تأثير يُذكر على الواقع المعاش وعلى وقف التدهور الحاصل على أكثر من صعيد. ليس المطلوب منها أكثر من قدرتها وإمكانيتها والمتاح لها والمسموح به.
أقلّ ما يُمكن ان تفعله وقادرة عليه، ورئيسها وعد بالإصلاحات الممكنة التي قد تأخذ وقتاً في ظلّ صراعات الطبقة السياسية واستشراسها في الدفاع عن مصالحها ومكتسباتها وسلطويتها، ولكن بإمكان الحكومة ومن واجبها ومسؤولياتها حفظ حقوق الدولة ومؤسساتها وشعبها وكشف الفاسدين وتجار السوق السوداء ومواجهة ومحاسبة الفاسدين والضغط بكلّ الوسائل الممكنة محلياً وخارجياً لاسترجاع المال المنهوب والمهرّب، وهذا جزء من الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي وهي أساساً مطلوبة وضرورية للبنان حتى لو لم يطلبها صندوق النقد الدولي كشرط للمساعدة.
حقاً انّ الشعب تائه والحكومة مربكة ومقيّدة بشروط الخارج ومصالح قوى الداخل، وقد يكون المخرج بتلقف العرضين الإيراني العراقي وهما في متناول اليد. ولماذا التأخير والتردّد والانصياع للضغوط والشروط الأميركية وغيرها؟ فلتضرب الحكومة الحديد وهو حام قبل ان يبرد أو كأنه لم يكن. فهل تفعلها الحكومة قبل فوات الأوان وهي الممسكة بقرارها…؟