فاروق الغالي مع «الشبيبة» تألق بطلاً ومن «الرمل العالي» تخرّج لاعباً مثالياً
ابراهيم وزنه
تميّزت برج البراجنة عن غيرها من بلدات ساحل المتن الجنوبي (ضاحية بيروت الجنوبية) في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بكثافة الوافدين اليها من كافة المناطق والمحافظات اللبنانية، ناهيك عن إقامة مخيم للمهجرين الفلسطينيين على أراضيها، في تلك الفترة كانت التلال الرملية و «العواد» المنتشرة غرب البلدة ملاذاً يومياً للشباب المندفعين إلى ممارسة كرة القدم، وطبعاً لكل حيّ ملعبه وفرقه ولاعبيه. وكثيرون من لاعبي البلدة تألقوا ونجحوا بالانتساب إلى أندية الدرجة الأولى، وهناك إجماع على أن أول نادٍ جذب أبناء البرج إلى قواعده وصفوفه هو الشبيبة المزرعة، الذي حرصت ادارته على ضمّ خيرة لاعبي البلدة على دفعات … ومن الدفعة الثانية برز اسم فاروق الغالي، فماذا نقرأ في سيرته ورحلته مع المستديرة الساحرة؟
البداية من ملعب الرمل
ولد فاروق الغالي في بيروت في العام 1944 ، وفي العام 1959 انتقلت العائلة المكوّنة من 10 أولاد (5 صبيان و5 بنات ـ ترتيبه الثاني بين الصبيان) للسكن في برج البراجنة التي كانت تشهد خلال تلك الفترة نهضة عمرانية، وبحكم عمل والده محمد سعد الدين الغالي ببيع السمك في بيروت اضطر فاروق وشقيقه الكبير عبد لترك المدرسة باكراً والعمل في مهنة «صب الباطون» بغية المساعدة في توفير العيش الكريم للعائلة. ومن حسن حظّه أن بيتهم كان بجانب ملعب البرج الرملي المحاط بتلة رملية شكّلت مدرجاً طبيعياً لمتتبعي المباريات والنزالات الكروية اليومية، إنه «ملعب الرمل العالي» المحفور في عمق الذاكرة «البرجية»، الملعب الذي خرّج عشرات اللاعبين الذين حفروا اسمائهم بقوة في سجلات الأندية وعلى صفحات الجرائد، ومن بين جيش المجلّين برز فاروق الغالي بسرعته وقوته البدنية بالرغم من قصر قامته (163 سم) لعب في بداياته كجناح أيمن، ثمّ انضم تلقائياً إلى صفوف فريق البرج قبل نيله الترخيص الرسمي، وعرف كيف يفرض نفسه في تلك الحقبة أساسياً على تشكيلة جلّ عناصرها من النجوم الملتحقين بنادي الشبيبة المزرعة، والذين هم بمثابة الدفعة «البرجية» الأولى إلى الفرق الرسمية، وفي مقدّمهم: عبد القادر خير، عباس رحال، سهيل رحال، فضل السباعي، فؤاد الثابت «الحصان»، وفيق الشحيمي وعادل منصور … وفاروق من الدفعة الثانية التي ضمّت حسين الحركه وحافظ عمار وأحمد فستق وسمير الديك وجودت عمار وعلي حمود وربيع الحسن وحافظ جلول. كانت المباريات في تلك الأيام تقام يومي السبت والأحد، السبت مخصص لفريق الارشاد والأحد لمباريات البرج، وخلال تلك المباريات لطالما احتشد أهالي وسكّان البرج للمتابعة والتشجيع والتزريك، بحيث لا يبقى موطأ قدم، حتى أن تمارين الفريقين كانت مشهودة جماهيرياً.
ملامح ونصائح
بداية لا بدّ من الاشارة إلى أن فاروق الغالي عوّض قصر قامته ببنيته القوية وعضلاته المفتولة، وهذه حال معظم زملائه نتيجة التمرين الجدي واللعب المستمر على أرض رملية صلبة … ومن مميزاته الميدانية، انه المنتصر الدائم في الالتحامات لقوة بنيته، ومن صفاته بأنه كان يلعب المباراة على نفس الايقاع وبلياقة بدنية عالية، يصعب المرور عنه، والجدير ذكره أيضاً، بأنه كان يوجد في صفوف الشبيبة ستة لاعبين بنفس المواصفات لجهة القوة واللياقة وقصر القامة والفنّيات العالية، هم: حافظ عمار، علي حمود، الأخوة منتوفي (جورج ونقولا وداوود) وفاروق الغالي، ونجح بوغدان بتوظيف امكاناتهم وإحراز البطولة الوحيدة للنادي العريق الذي أصبح بعد عدّة سنوات على «بطولته» من الماضي.
ويوضح الغالي: «إلى جانب انغماسي في كرة القدم وطبيعة عملي في صب الباطون انتسبت إلى نادي الساحل للملاكمة في برج البراجنة … فالملاكمة أسهمت في تطوير ادائي الكروي خلال فترة لعبي مع الشبيبة لجهة رفع مستوى اللياقة وقدرة التحمّل والنفس الطويل من دون تعب … كنت ملتزماً بالتمارين والارشادات الفنية التي يقدّمها لي المدرب بوغدان، حريصاً على عدم الانزلاق إلى كل ما يؤثّر سلباً على ادائي الرياضي، لجهة الابتعاد عن التدخين والسهر، وهذا ما سرّع في عملية ترفيعي إلى الفريق الأول في العام 1966 أي بعد سنتين مع فريق الدرجة الثانية … وأعتز بأنني كنت في عداد الفريق الذي أحرز بطولة لبنان في العام 1967 بجدارة واستحقاق كاسراً احتكار البطولات للراسينغ والهومنمن والهومنتمن، علماً أن الاتحاد في تلك الفترة كان ميّالاً لتسهيل أمورهم».
أيّامي الجميلة في المزرعة
انضم الغالي مع الدفعة البرجية الثانية إلى الشبيبة في العام 1964، فلعب مع المزرعة في أياّم عزّه، العزّ الاداري بقيادة نقولا نمر مجدلاني «أبو السعد» الذي كان يجد في أبناء البرج ضالته الكروية لكونهم من المخلصين الأوفياء، والعزّ الفني بوجود نخبة من اللاعبين بقيادة المدرب الروماني المحنك بوغدان، وعن تلك المرحلة وأجمل محطاتها العالقة في ذهنه ومدى تأثير بوغدان الايجابي عليه يتذكّر الغالي: «كان فريقنا بمثابة القوة الضاربة والمُهابة، عرف كيف يفرض نفسه رقماً صعباً بين الكبار بقوّة لاعبيه واخلاصهم وتفانيهم، فالأجواء كانت رائعة بين الاداريين واللاعبين، وبعد إحرازنا البطولة ذاع صيتنا وصار فريقنا مطلباً للفرق العربية والأجنبية، وأذكر في مباراتنا مع الأهلي المصري على ملعب المدينة الرياضية كنا ضاغطين ومسيطرين على المجريات، وأنقذ حارسهم مروان كنفاني باعجاز كرتين خطرتين للراحل حافظ عمار، وبعد مرور ربع ساعة فقط أوقف الحكم المباراة … بحجّة سوء الأحوال الجوية». وأضاف : «حلّ نادي فارول الروماني ضيفاً على الفرق اللبنانية، وربح على كل من واجهه، ولما لعب ضد الشبيبة خرج متعادلاً (4 ـ 4) علماً بأننا كنا متقدّمين بنتيجة 4 ـ 3 ، ويومها سجّل حافظ عمّار «ثلاثية» جعلت مدرب فارول يطلبه للانضمام إلى فريقه، وفي ضوء نتيجة هذه المباراة طلب الاتحاد الروماني من بعثة فارول مغادرة لبنان والعودة سريعاً إلى رومانيا»…. ويضحك الغالي عند استذكاره للمباراة التي جمعت منتخب بيروت ضد فريق الاسماعيلي المصري على ملعب المدينة الرياضية، فيقول: «لم يكن يدرك مدافع الاسماعيلي الشهير حودة مدى سرعة مهاجمنا داوود منتوفي، فبعدما تجاوزه بشكل لافت لمرتين، عمد حودة للابتعاد عنه لمسافة 15 متراً من باب الاحتياط ليتمكن من اللحاق به … وبصراحة ميزة السرعة والانطلاق الصاروخي كانت العامل الرئيسي في تحقيق الانجازات لفريقنا في تلك الأيام، وخصوصاً عبر حافظ عمار والأخوة منتوفي الذين شكّلوا قوة هجومية مرعبة، عجزت دفاعات أهمّ وعتى الفرق العربية والأوروبية على مجاراتها أو الحدّ من خطورتها، وكانت تضمّ تشكيلتنا في تلك الأيام مجموعة بارزة على صعيد كل لبنان».
بوغدان … الأفضل وله أفضال
وفي ذكرياته مع بوغدان يقول: «انه أفضل مدرّب أجنبي حضر إلى لبنان إلى جانب مدرّب جزائري ـ نسيت اسمه ـ درّبنا لموسم واحد ثم انتقل إلى تدريب الزمالك بيروت (درجة أولى ـ فئة ب) في مطلع السبعينيات، وبوغدان هو من أرجعني إلى الخلف وطلب مني شغل مركز الظهير الأيسر المواكب نظراً لقوّتي البدنية وسرعتي، وله الفضل في استعمالي القدمين، يومها طلب مني بأن ألعب بـ «فردة» الشمال فقط لمدّة اسبوعين حتى أصبحت أجيد اللعب والتسديد ورفع الكرات بها … وعندما تركت الملاعب توجّهت إلى مجال التدريب مستفيداً مما راكمته من خبرات من بوغدان والمدرب الجزائري بالاضافة إلى ما حفظته من تمارين المنتخبات التي كانت تحضر إلى لبنان أو الفرق الاجنبية التي كنا نلبي دعوتها لخوض جملة من المباريات الودية، وخصوصاً في روسيا ومصر وبلغاريا، حيث كان فريقنا يقوم بجولة صيفية، نسافر بالباخرة ونعود بالطائرة … بعد اعتزالي اللعب في العام 1977 درّبت فريقي الشبيبة المزرعة لعدّة مواسم فاستقدمت جملة من اللاعبين من البرج لتدعيمه، كما دربت فريق كرة القدم التابع لفوج التدخل الأول في الجيش ودرّبت نادي الارشاد في البرج».
خصوصيات من دفاتر الغالي
«في الوقت الذي توجّهت فيه إلى ميادين القوّة والسرعة والملاعب والحلبات توجّه أخي محيي والذي يصغرني بثلاث سنوات إلى ساحات الفن والابداع متأثراً بأخوالي ليتألق بشكل سريع ولافت في العزف على آلة القانون» بهذه الكلمات أشار الغالي إلى بعض خصوصياته العائلية، وهو الذي ودّع العزوبية في العام 1972 مرتبطاً بفايرة الشامي وله منها 4 أولاد (حسن ومحمد وعمر وميرفت) … وفي خيارته الفنيّة يقول: «حافظ عمّار هو أفضل مهاجم مرّ بتاريخ لبنان، وعبد الرحمن شبارو يعتبر الحارس الأول في تاريخ الكرة اللبنانية وحتى العربية وجمال الخطيب أكثر اللاعبين تألقاً في الملاعب اللبنانية كما أن يوسف الغول حالة فريدة لن تتكرر لاحقاً … أشجّع ريال مدريد منذ عقود ولم أزل وكذلك حالي مع المنتخب البرازيلي أما على الصعيد العربي فأعتز بأنني من محبي ومشجعي الأهلي القاهري». وأفادنا الغالي بأن والده كان من أبطال الرماية في لبنان ولقبه «البرملي» وأن إبنه حسن لعب لمدّة مع فريق الاخاء حارة حريك، ولاحقاً منع ولديه عمر ومحمد من التوقيع لأي نادٍ.
تحيّة وفاء
فاروق الغالي، هو من اللاعبين المنسيين، وحاله كحال معظم اللاعبين الذين صنعوا أمجاد الكرة اللبنانية ثمّ غابوا عن المشهد الكروي تماماً، ومن خلال هذه الاضاءة على شخصه وتاريخه مع فلفشة ذكرياته وصفحاته المشرقة، أشعر وكأنني قد أديّت رسالة الوفاء لتاريخ لاعب عمّر في الملاعب لأكثر من 25 عاماً، ثم غادرها بصمت، ولسان حاله يردد «لو دامت لغيرك ما وصلت اليك».