أبناء الحياة فاتحو درب الشهادة…
} اياد موصللي
في الثامن من تموز 1949 استشهد أنطون سعاده وقال: انّ موتي شرط انتصار قضيتي. أموت لأحيا وحزبي باق… وانّ طريقنا طويلة وشاقة لأنها طريق الحياة وأبناء الحياة ولا يثبت عليها إلا الأحياء وطالبو الحياة أما الأموات فيسقطون على جوانب الطريق.
وقال: «انّ الغرض الذي أنشئ له الحزب هو غرض أسمى جعل الأمة السورية صاحبة السيادة على نفسها ووطنها. نحن نبني أنفسنا حياة وحقاً، نبني أنفسنا زحفاً وقتالاً في سبيل قضية واحدة هي قضية أمة لا قضية أشخاص. نحن أمة قوية عظيمة بمواهبها غنية بمواردها نشيطة بروحها. لم آتكم مؤمناً بالخوارق بل أتيتكم مؤمناً بالحقائق الراهنة التي هي أنتم. أتيتكم مؤمناً بأنكم أمة عظيمة المواهب جديرة بالخلود، وإذا لم تكونوا أحراراً من أمة حرة فحريات الأمم عار عليكم…
وفي 19 تموز 1949 أيّ بعد 11 يوماً من بدء تاريخ الحياة القومية الاجتماعية التي فتح طريقها أنطون سعاده، سارت أول كوكبة من فرسان الحزب أبناء الحياة على هذا الطريق سالكين درب الشهادة والحياة سائرين على خطى زعيمهم الذي فتح طريق الحياة معلناً أنّ أزكى الشهادات هي شهادة الدم… شهداؤنا هم طليعة انتصاراتنا الكبرى، قد تسقط أجسادنا أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود ولن تزول…
في 19 تموز 1949 بعد ثلاثة ايام من صدور الأحكام على القوميين، وفي الساعة الثالثة صباحاً استيقظتُ في قاووش السجن على يد تنكزني بهدوء وكان أحد السجناء يشير إليّ للنهوض. فاتجهت نحوه وكان يقف قرب فتحة صغيرة في الباب تدعى شرّاقة وعبر مرآة يمدّها من الشرّاقة كان يشاهد ما يجري في الجانب الآخر من المبنى الذي نُسجن فيه. نظرت عبر المرآة الصغيرة التي يحملها السجين فرأيتُ عدداً من رفقائنا المحكومين بالإعدام يُنقلون تمهيداً لأخذهم الى مكان تنفيذ أحكام الإعدام بهم. رأيتُ كاهناً وشيخين وعدداً من رجال الأمن يقفون في الممر.. واتضحت وجوه رفقائنا فرأيتُ الرفقاء: محمد شلبي، معروف موفق، عبد الحفيظ علامة، محمد الزعبي.. وساقوهم مكبّلين ولم نعد نراهم. أدركت انّ رفقاءنا سيكونون ضحايا آلة القتل.. وأنهم ذاهبون إلى درب الشهادة. درب الحياة والخلود. كانت وجوهم ضاحكة. يبتسمون وهم ويتحدّثون.
عدتُ الى مكاني دمعت عيناي وتساقطت الدموع بغزارة، لا سيما وأنا أنظر إلى عبد الهادي حمّاد الممدّد بجانبي بينما شقيقاه بين الضحايا، كان يغطّ في نوع عميق جلستُ في مكاني القرفصاء وبعد حوالي نصف ساعة تقريباً سمعتُ صوتَ إطلاق الرصاص من مكان قريب، علمتُ في ما بعد أنه الرملة البيضاء خلف مقابر مار الياس بطينا، والمكان ليس بعيداً عن سجن الرمل في الطريق الجديدة، دوّى الرصاص وانهمرت دموعي غزيرة وكنت أخفي صوتي وحشرجتي لئلا يسمعني عبد الهادي ويعرف انّ أخويه قتلا، لكن يبدو أنّ غزارة دموعي سقط بعضها على وجهه ففتح عينيه فرآني أبكي فنهض وجلس بجانبي ومدّ يده ومسح وجهي وقال لي فوراً: لقد استشهد رفقاءنا أليس كذلك؟ لماذا تبكي يا أياد؟ أوَلم تكن دماؤنا وأرواحنا فداء لعقيدتنا ووطننا؟ أوَلم يكن هذا طريقنا من البداية؟ أوَلم يسبقنا الزعيم إليه. وازدادت دموعي انهماراً. رجل شقيقاه يقتلان وهو يهدّئني أنا بأعصاب صلبة وروح عالية، ما أروع عبد الهادي حماد ورحم الله عباس وسعيد حماد. استيقظ كلّ مَن في القاووش من السجناء وبدأوا ينظرون الى عبد الهادي بإعجاب وتقدير، ثم قال لي عبد الهادي: نم يا رفيق أياد هذا هو طريقنا وقد سبقنا زعيمنا إليه.
في اليوم الثاني بدأت تصلنا أخبار ما جرى، نفذ حكم الاعدام بستة فقط من رفاقنا اختيروا حسب التنوّع الطائفي، وكان رفقاؤنا الشهداء الأبطال وهم في الطريق إلى ساحة الإعدام يضحكون وينشدون «سورية لك السلام… بلادي بلادي فداك دمي:.
كان عباس حماد قومياً بالفكر لم ينتسب إلى الحزب نظامياً فطلب من الرفيق محمد شلبي أن يؤدّي القسم الحزبي أمامه وهذا ما حصل وأقسم عباس حماد اليمين ليكون مكملاً واجباته الحزبية الدستورية، قبل استشهاده أقسم اليمين في الطريق وقال: الآن أموت مرتاح البال.
استشهد سعاده وأصبحت الشهادة وتقديم الدماء من أجل الأمة والوطن عنواناً من عناوين الحياة القومية الاجتماعية. لبّى الرفقاء نداء الأمة وأعادوا الأمانة التي وضعتها في عروقهم مؤمنين بأنّ ما فينا هو من أمتنا ولأمتنا حتى الدماء. وباستشهاد هؤلاء الأبطال لم يقفل باب التضحية والعطاء بل شرع واسعاً طريق التضحية وارتفع الشهداء في كلّ مرحلة وموقف يستدعي وقفة بطولة وعز.
وها هم أول الشهداء الذين دشنوا طريق الشهادة وساروا:
الصدر عساف كرم
الصدر هي رتبته العسكرية في التنظيم الحزبي وتعادل رتبة عقيد. ولد في البرازيل عام 1913 – بعد عودته إلى لبنان ونيله الشهادة الثانوية التحق بالمدرسة الحربية في حمص عام 1934 وكانت تدار من قبل الانتداب الافرنسي وتخرّج ضابطاً برتبة ملازم وخدم في الجيش الافرنسي. شارك في الحرب العالمية الثانية وخاض معركة بير حكيم في طبرق بليبيا، بعد انسحاب الافرنسي ترك الجيش. انتمى إلى الحزب عام 1935، ومن المطابقات أنه رابط مع جنوده أثناء الحرب العالمية بعد أن هاجمت قوات الحلفاء لبنان لطرد الجيش الفرنسي المعروف بقوات فيشي في مغارة الضبع بالبقاع وهي نفس المغارة التي تمركزنا فيها لدى دخولنا لبنان. قاد القوميين في معركة مشغرة، ومعركة سحمر التي استشهد فيها رافضاً الاستسلام. وكان استشهاده في 5/7/1949.
محمد كساب الزعبي
ن محافظة حوران في الشام ولد عام 1927 في بلدة الشيخ مسكين وسكن طيلة حياته في قرية خربة غزالة انتمى إلى الحزب في عام 1948. تطوّع في حرب فلسطين وشارك في المعارك التي جرت فيها، وفي معركة سحمر كان يرافق الرفيق حمادة اليوسفي رامي الرشيش وعندما تعطل الرشيش من نوع برّن رماه حمادة اليوسفي وانسحب يرافقه محمد زعبي ووصلا إلى قرية قليا، وهناك سلمهما مختارها حيث حكم حمادة بالسجن أربع سنوات وحكم محمد الزعبي بالإعدام. كان مؤمناً جداً بالعمل من أجل الأمة والوطن لذلك استغرب أن يُحكم بالإعدام من كان يعمل لأمته، فقال عند سماعه نص الحكم وهو يضحك: «ول ول وبعدين بالإعدام يحكمونا”.. نفذ به الحكم في 19 تموز 1949.
محمد ابراهيم الشلبي
من فلسطين مدينة حيفا ولد عام 1923، انتمى إلى الحزب عام 1942 في حيفا، استشهد بعد تنفيذ حكم الإعدام به في 19 تموز 1949. شارك في حرب فلسطين 1948 كان عضواً في فرقة الزوبعة ومسؤولاً عن بعض المجموعات القتالية، ساهم في تفجير المطحنة المعروفة في المدينة في حيفا والتي جعلها الصهاينة نقطة تجمع ومستودعاً للأسلحة متسترة وراء ظاهر المطحنة وتمّ تدمير المطحنة بالكامل، وتمكن محمد الشلبي بعدها من الفرار إلى دمشق وأصبح رأسه مطلوباً. كان محمد شلبي من بين الرفقاء الستة الذين تمّ اختيارهم للشهادة في محاكمة الزعيم. وعندما رأى سعاده في قاعة المحكمة هتف: إنه الزعيم… يحيا سعادة… وعندما التقيتُ به في قاعة المحكمة العسكرية روى لي قصة الشهادة… وقد أوردت ذلك في كتاب «أنطون سعاده ماذا فعلت”.
عبد الحفيظ علامة
من مواليد برج البراجنة عام 1915، انتمى إلى الحزب عام 1936، استشهد في 19/7/1949.
قاد سيارة الزعيم أثناء تواريه عن الأنظار ومغادرته رأس بيروت مخترقاً الحواجز الأمنية حول بيته. بعد حادث الجمّيزة ومحاصرة بيت الزعيم من قبل رجال الأمن.
شارك في الأعمال الحزبية المسلحة بعد الاعتداءات على الحزب وأمام مخفر حارة حريك مع رفقائه وشارك بمعركة سرحمول بقيادة جورج عبد المسيح.
أديب الجدع
مواليد فلسطين مدينة حيفا مواليد 1930 انتمى إلى الحزب عام 1948 واستشهد في 19 – تموز1949.
وهو من عائلة فيها الكثير من القوميين ومنهم الأمين كميل جدع عُرف ببأسه ورباطة جأشه.
معروف موفق
من مواليد دير قوبل عام 1924 انتمى إلى لحزب عام 1945. استشهد في 19/7/1949.
شارك في معركة سرحمول مع رفقائه بقيادة جورج عبد المسيح.
عباس حمّاد
مواليد طبريا – فلسطين عام 1918 انتمى إلى الحزب في 19/7/1949 وهو في طريقه لتنفيذ حكم الإعدام به، خدم برتبة نائب ضابط في الجيش الانكليزي قوات حرس الحدود الفلسطينية، شقيق الرفيقين عبد الهادي وسعيد حماد، أحبّ الحزب وتابع نشاطاته، شارك مع شقيقيه في ثورة 1949 ولم يكن منتمياً إلى الحزب، أقسم اليمين وهو في طريقه إلى ساحة الاستشهاد أمام الرفيق محمد شلبي وكان أداؤه اليمين قبل فترة لا تزيد عن نصف ساعة في الشاحنة التي أقلتهم قبل استشهاده، كان يخطط بعد خروجه من السجن ان يتزوّج ويقتني سيارة يعمل عليها لإعالة زوجته ووالدته…
محمد ملاعب
من مواليد بيصور في منطقة عالية عام 1921 انتمى للحزب عام 1937 شارك في معركة سرحمول.
استشهد في 11/7/1949 اثر تعذيب شديد تعرّض له عند توقيفه في سيار الدرك قرب أوتيل ديو. وأشرف على تعذيبه الضابط عبد المجيد الزين.
ومن أنواع التعذيب الوحشي الذي تعرّض له رُبطت يداه في نافذة مطلة على ساحة السيار ورُبطت ساقاه بحبل ورُبط الحبل بحصان ساقه الضابط عبد المجيد الزين مع الضرب بالسياط ومن شدة الشدّ تمزقت عروق جسده وسال دمه وسقط شهيداً.
فتح شهداؤنا الباب وقالوا لرفقائهم، اعبروا فطريقنا طويلة وشاقة لأنها طريق الحياة ولا يثبت عليها إلا الأحياء وطالبو الحياة أما الأموات فيسقطون على جوانب الطريق. نحن نموت لنحيا… أما من لا قضية لهم فيعيشون ليموتوا…
ملاحظة: إنّ تاريخ استشهاد الرفقاء الذين اغتالهم النظام الطائفي في شهر تموز 1949 بعد اغتيال الزعيم بحسب كتاب «الخالدون» هو في 21 تموز 1949.