مَن حفر هذه الحفرة لبكركي؟
ناصر قنديل
– يبدو أن ثمّة مَن لفت نظر البطريرك بشارة الراعي إلى أن ما نصحه به مستشاروه لتبنّي الدعوة لإعلان حياد لبنان، كإطار لسياساته الخارجيّة والدفاعية يصادق عليه مجلس الأمن الدولي، وفقاً لمقتضيات الحياد في القانون الدولي، يمثل استحالة قانونية قبل الحديث عن التأييد والرفض للاعتبارات الوطنية والسياسية، فأدخل عليه تعديلاً أسماه بالحياد الإيجابي الذي يستثني «إسرائيل»، فصارت دعوته هرطقة قانونيّة، وأيضاً بمعزل عن القبول أو الرفض لهذه الدعوة بالمعايير الوطنية والسياسية، فمن ورّط البطريرك بدعوة لا أفق لها وكل تبشير بها يضعف مكانة بكركي وسمعتها الجدية وسمعة البطريرك الموصوف بالأناة والتبصّر وحسن التدبّر؟
– الحياد الذي دعا إليه البطريرك للوهلة الأولى ليس هرطقة قانونية وموجود في نماذج كسويسرا والنمسا، لكن موجباته اللبنانية كي يصير وارداً اكتمال شروطه بعيون القانون الدولي ومعايير الحياد، تستدعي مساراً يصل الأمل بتحقيق أهدافه إلى الصفر المكرر، وانتظاراً وسعياً خلال عشرات السنين المقبلة من دون توقع أي تقدّم، إلا بعد حل الصراعات الكبرى في المنطقة، ما لم ينفجر لبنان الداخلي على إيقاع هذه الدعوة بعد اكتشاف ما تستدعي من موجبات، وما لم يرافق هذا الانتظار ما يجعل الدعوة وموجباتها، مدخلاً لتفتيت وحدة اللبنانيين، والأهم أن من يتعرّف على الموجبات اللازمة للتقدّم قانوناً بطلب إعلان حياد لبنان سيفضل حكماً البقاء على الوضع الحالي، لأنها موجبات المستحيل.
– لا تقبل طلبات دولة لإعلان حيادها وهي في حالة حرب، ونزاع حدودي، ومن دون موافقة جيرانها وفقاً لحدود واضحة تمّ ترسيمها وإيداع خرائطها لدى الأمم المتحدة، ولا يقبل طلب دولة عضو في منظمة إقليمية لها امتدادات قانونية وموجبات ذات صفة تشبه الأحلاف العسكرية، ولا يقبل طلب دولة لا تعتمد في تعاملها مع قضايا اللجوء وفقاً لمعايير الأمم المتحدة، وهذا كله يعني أن على لبنان إنهاء نزاعه مع كيان الاحتلال، بما في ذلك حسم مصير اللاجئين الفلسطينيين بين الاتفاق على عودتهم أو توطينهم، وترسيم بري وبحري مُنجز للحدود، والتوصل مع سورية إلى اتفاق على حياد لبنان تلغى بموجبه المعاهدات المشتركة ذات الشق المتعلق بالتعاون الأمني والعسكري، وترسيم كامل للحدود معها، وحسم مصير النازحين السوريين، بين عودة أو توطين، وتراضي كل من سورية وكيان الاحتلال، على حياد لبنان كدولة مجاورة، وإعلان انسحاب لبنان من جامعة الدول العربية، والهوية العربيّة للبنان، وتعديل الدستور لهذه الجهة، وإدخال مواد تتصل بالحياد في الدستور، بما فيها الاستعداد لتطبيق معايير الأمم المتحدة على قضايا اللجوء، خصوصاً لجهة تعديل قانوني الجنسية والملكية.
– إعلان حياد لبنان مستحيل قانوناً بدون حل إقليمي شامل للصراع مع كيان الاحتلال، بما في ذلك بين سورية والكيان، وحل شامل متفاهم عليه للقضية الفلسطينية، وهو رغم كونه كمشروع مستحيل، إلا أنه قابل للتحول في السياسة إلى سعي لإعلان حرب متعدّدة الأشكال مع سورية والفلسطينيين، لو سلمنا بأن أياً من اللبنانيين لم يسجل اعتراضاً على المشروع ونزل الوحي على اللبنانيين بكلام البطريرك وصرخوا بصوت واحد أمرك سيدنا، وأن حزب الله قام من الصباح الباكر بتسليم كل سلاحه للجيش اللبناني، فأين يكمن ما يدّعيه فيه أصحابه من خير على لبنان ما دامت موجباته بحجم حلّ كل أزمات العالم قبل أن يبصر النور؟
– أما بدعة الحياد الإيجابي التي تستثني كيان الاحتلال، فهي إعلان سقوط لدعوة الحياد، ومجرد مخرج كلامي لنعي الدعوة للحياد، لأن لا شيء اسمه في القانون الدولي حياد إيجابي واستثناء، لتصير الدعوة المعدلة، مجرد كلام إعلامي ودعوة سياسية لبث الروح في الجسد الميت لنداء بعبدا في أيام الرئيس السابق ميشال سليمان، والنأي بالنفس، أي الانتقال عكساً من إطار قانوني دولي ملزم للخارج، إلى خطاب محلي سياسي يخاطب الداخل، فيصبح مجرد عودة للتمني على الأطراف الداخلية أن تخفف من درجة تورطها في المحاور الإقليمية، تجنيباً للبنان لتداعيات هذا التورط، وهو مسعى يطال طرفين رئيسيين أكثر من سواهما، حزب الله كحليف رئيسي لإيران، وتيار المستقبل كحليف رئيسي للسعودية، ولو نزعنا عن قضايا المنطقة ومحاورها صلتها الفعلية بالصراع مع كيان الاحتلال، وجعلناها مجرد صراعات نفوذ بين محاور، فهل يمكن لصاحب الدعوة التطلع لتأثير خطابه الأبوي على طرفين داخليين، بينما يقوم بشيطنة أحدهما وتحميله مسؤولية الخراب واتهامه بالهيمنة، مقابل التحالف مع الفريق الآخر في التوجّه لمحور دولي إقليمي مقابل كمحور حليف يكون الخير في استرضائه؟
– مَن حفر هذه الحفرة لبكركي؟
– عملياً ووفق السياق الذي تحركت فيه الدعوتان، الأصلية والمعدلة، وقعت الدعوة الأصلية في مكان يدعو لترجمة شروط ومطالب فريق خارجي له امتدادات لبنانية يرفض عروبة لبنان ومن خلالها عضوية لبنان في الجامعة العربية، ويطلب الضغط على سورية لترسيم الحدود وإلغاء المعاهدات الموقعة معها واستبدالها بما ينسجم مع إعلان حياد لبنان، ويدعو لتوقيع معاهدة سلام مع «إسرائيل» ولقبول الطلب «الإسرائيلي» للترسيم، بصفتها شروطاً للحياد القانوني، ولا يرى مشكلة في توطين النازحين السوريين ولا توطين اللاجئين الفلسطينيين. وهذا عملياً يعني تبنياً لمواقف محور من محورين متقابلين في المنطقة حول لبنان، وليس الحياد بينهما. ووقعت الدعوة الثانية المعدلة بترجمتها في خطاب البطريرك، في مكان تبني حلف دولي إقليمي وامتداده الداخلي، في مواجهة فريق داخلي وتحالفاته الخارجية، وصارت الفائدة الوحيدة للدعوتين هي في كونهما أظهرتا بانحيازهما، أن لبنان يقف حالياً في منطقة حيادية بين المحورين المتقابلين، والمطروح نقله إلى منطقة الانضمام إلى أحد المحورين، فالدولة كدولة بمعزل عن قناعات رموزها في الرئاسات وسواها تراعي المحور الذي تدعو المبادرتان للانضمام إليه، رغم أن الرئاسات محسوبة نظرياً على المحور المقابل، ويكفي لتبيان ذلك قياس حرارة وحيوية التواصل والزيارات مع كل من عواصم المحورين، ودرجة الاهتمام بالوقوف على رأي كل من عواصم المحورين في القرارات السيادية والسياسية والاقتصادية للدولة.
– فعلاً مَن حفر هذه الحفرة لبكركي؟