لبنان: من الهبوط إلى النهوض
زياد حافظ _
عرضنا في المقال السابق الأسباب الموضوعية التي ستمكّن لبنان من النهوض والتغيير. فموازين القوّة في المنطقة هي التي ستحدّد الخيارات المتاحة وليست الإملاءات الأميركية. كما أن الظروف الموضوعية الداخلية على الصعيد الشعبي أصبحت أكثر تقبّلاً للتغيير بينما الطبقة السياسية التي ما زالت ممسكة بزمام الأمور أصبحت في موقع التراجع الاستراتيجي الذي لا تستطيع تعديله. فهذه القيادات الفاسدة لجأت إلى الاختباء وراء المرجعيات الدينية لتخفي فشلها وانفلات الأمور من يدها. فلا الديمغرافيا اللبنانية ولا الجغرافيا ستسمح لتلك الطبقة الاستهزاء إلى ما لا نهاية بمصالح وحقوق اللبنانيين كما لم يعد ممكناً للمرجعيات الدينية التستّر عن تلك القيادات أو تبنّي مواقفها التي تحول دون تحقيق التغيير المنشود.
اما مرتكزات النهوض الاقتصادي فهي في إعادة هيكلة الاقتصاد والدين العام والقطاع المصرفي. وإعادة هيكلة الاقتصاد تعني الانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي وذلك عبر تجفيف مصادر الريع المدمّرة كالفوائد المرتفعة على سندات الخزينة (من هنا ضرورة إعادة هيكلة الدين العام) وعبر مراجعة التنافس المشروع لتثبيت الاقتصاد الحُرّ ما يعني إلغاء الوكالات الحصريّة في الاستيراد والاحتكارات غير المشروعة في لبنان. لكن هذا يشكّل الجزء الأول للانتقال إلى اقتصاد إنتاجي.
أما الشق الثاني فهو دعم القطاع الزراعي والصناعي والسياحي والاستشفاء والتربوي والاستثمار في قطاعات تجني القيمة المضافة المرتفعة عبر التكنولوجيا وتطبيقاتها على سائر المكوّنات الاقتصادية المنتجة والتي عرضناها في مقالات سابقة. في هذا السياق فوجئنا في وسائل التواصل الاجتماعي انتشار الاستخفاف بالعودة إلى الزراعة كأنها من سمات التخلّف. نذكّر هؤلاء بمقولة جبران خليل جبران في حديقة النبي: “ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتشرب مما لا تعصر وتلبس مما لا تنسج”. والمقولة تتبعها مقولات مشابهة لا تنطبق على لبنان فحسب، بل على كل الدول العربية. لكنا ما نذكّر به يلخّص فحوى الاستراتيجية التي نعرضها والمخاطر الناتجة عن عدم تطبيقها. فالويل قد وصل إلينا بسبب فساد الطبقة الحاكمة.
لكن بعيداً عن المماحكة حول ما تحتويه تلك المحاولات المستهزئة بالعودة إلى البديهيّات في الإنتاج فإن دعم القطاع الزراعي له أهداف عدّة منها تأمين الحد الأدنى من الأمن القومي الغذائيّ. فالتلويح بالجوع لأن لبنان يستورد حاجاته الغذائية التي كان ينتج قسماً كبيراً منها قبل الحرب الأهلية والتي قضت عليها حقبة الطائف، فإن ذلك التهديد والتهويل غير مقبول. فمن سخرية الدهر أصبح لبنان يستورد الألبان والأجبان من دول خليجية بينما مراعيه ومزارعه التي كانت تصدّر تلك المنتوجات إلى الدول الخليج أصبحت مقفلة بسبب السياسات العبثيّة التي فرضتها الطغمة الحاكمة في حقبة الطائف. أما السبب الثاني فهو تثبيت المواطن اللبناني بأرضه سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية السكّانية أو من الناحية البيئية. كما أن القطاع الزراعيّ مصدر اقتصادي لاستيعاب البطالة المتفشّية في لبنان والتي تتراوح التقديرات فيها بين 20 إلى 30 بالمئة بين الشباب. طبعاً لا بدّ من سياسة حكيمة في الاستثمار الزراعي كنّا قد أشرنا إلى ذلك سواء في نوع المزروعات صاحبة القيمة المضافة المرتفعة أو لجهة مساحة الأراضي المخصّصة للزراعة بدلاً من الاستثمار العقاري فيها.
ما أشار إليه امين عام حزب الله في إحدى إطلالته الأخيرة حول الزراعة في كل بقعة ممكنة حتى الشرفات فما هو إلاّ التأكيد على أهمية القطاع الزراعي وإن لم يتوسّع في التفاصيل. قد يعترض المشكّكون على ذلك بناء على ما يعتقدونه هو فقدان الجدوى الاقتصادية بسبب ارتفاع كلفات البذور أو السماد أو شحّ التمويل المتوسط وطويل الأجل أو حتى حجم السوق الزراعية في لبنان، فإن كل ذلك يمكن تبديده عبر سياسات رشيدة ممكنة.
أما القطاع الصناعي فللبنان تاريخ ناجح بالصناعات المتوسطة والصغيرة وصناعة الملبوسات والصناعات الغذائية والمشروبات. تمّ إهمال تلك الصناعات من دون أي مبرّر لتفعيل الاستيراد. القطاع الصناعي مصدر أساسي لاستيعاب البطالة واليد العاملة الماهرة في لبنان تجعل المنتوجات اللبنانية من الجودة المرتفعة والمطلوبة. لن يصبح لبنان منافساً للصين بل قطاعه الصناعي قد يكون داعماً للبحث التكنولوجي لرفع القيمة المضافة. هذا ما كنّا نقصده بأن الطاقة البشرية من المكوّنات الموضوعية الاستراتيجية في نهوض لبنان.
أما قطاع الخدمات المنتجة فنقصد بذلك القطاع الذي يأتي بقيمة مضافة كبيرة وإن كانت على فترة طويلة. تطوير القطاع التربوي وخاصة في التعليم العالي في البحوث سيجعل لبنان منارة مرّة أخرى للعلم والبحث في المنطقة. كما أن قطاع الاستشفاء يلازم القطاع السياحي. فهناك سياحة طبّية كما هناك سياحة للجيل الثالث، أي طبقة المتقاعدين الأوروبيين الذي يبحثون عن مناخات دافئة في الشتاء. أما الخدمات المالية فستكون في خدمة الإنتاج الفعلي وليس الإنتاج الافتراضي الذي كانت عليها طيلة حقبة الطائف. فكل هذه القطاعات الميزة الأساسية هي نوعية الطاقة البشرية المتوفرة التي قد تجعل من لبنان من أهم مراكز الاستشفاء والتعليم العالي ليس في المنطقة بل ربما في العالم. كل ذلك يساعد على إيقاف الهجرة ويساهم في الاستفادة من تلك الطاقة. طبعاً هناك ضرورة في مراجعة نظام التعليم العالي والاستثمار بالجامعة الوطنية ومراكز البحوث العلميّة التي يجب أن تطلقها الجامعة الوطنية. فكل ذلك يعني مشاريع استثمارية متوسطة وطويلة المدى تعود بلبنان بفوائد كبيرة وعديدة. وهي أيضاً ستكون ركيزة النهوض الشامل في لبنان.
اما الشقّ الثالث الذي يدعم الانتقال إلى اقتصاد إنتاجي فهو التوجّه شرقاً بشكل استراتيجي لأن الوجهة السابقة غرباً لم تعد صالحة للبنان. فالجدوى الاقتصادية للمشاريع الاستثمارية في القطاعات الإنتاجيّة تتعزّز مع توسيع السوق. وهذا التوسيع عنوانه واحد: التشبيك الاقتصادي مع دول الجوار العربية والإقليميّة (ومع فلسطين عند التحرير المقبل). فالتشبيك الاقتصادي يساهم في تحقيق وفورات الحجم للمشاريع المتوسطة والكبيرة كما يسهّل عملية ترشيد الاستثمارات في القطاعات الأكثر جدوى في النمو والاستدامة.
التوجّه شرقاً يفتح المجال للاستثمار العربي والإقليمي في لبنان. فطالما كان لبنان يدعو إلى جلب الاستثمارات فالأخيرة ستأتي إذا ما شعرت أن السوق المستهدف كبير وغير محصور ببقعة جغرافية صغيرة. من جهة أخرى يمكن الاستفادة من تنفيذ مشاريع مشتركة في بناء وإعادة تأهيل العديد من المرافق والبنى التحتية بتمويل محلّي وأو بتمويل من قبل دول صديقة تجد الاستثمار في المنطقة فرصة لا يمكن أن تفوّتها لما تحتوي المنطقة من موارد وقدرات. فإعادة إعمار سورية والعراق قادمة لا مفرّ من ذلك رغم محاولات العرقلة من قبل الدول الغربية والتي ستفشل حتماً، فقد تستطيع فقط إبطاءها ولكن لن تستطيع منعها. العالم لم يعد بقبضة الغرب كما تعتقد بعض النخب العربية. فالثقل الاقتصادي أصبح في الشرق. ما نراه من مظاهر قوّة في الغرب هي رواسب قوّة اندفاع منقطعة عن أسباب انطلاقها. فالأزمات المالية وجائحة الكورونا كشفت مدى وهن الاقتصادات الغربية ومدى حيوية الاقتصادات الشرقية. موقع “ستاتيستا” نشر مشخّصاً مثيراً حول تراتبية حجم الاقتصادات العالمية. ففي عام 2024 ستصبح الصين الدولة الأولى في العالم تليها الولايات المتحدة ثم الهند ثم اليابان ثم اندونيسيا ثم روسيا. ألمانيا تأتي في المرتبة السابعة تليها البرازيل ثم المملكة المتحدة ثم فرنسا. والسؤال يصبح لماذا على لبنان أن يتمسّك بالتعامل مع دول تراجع دورها وثقلها الاقتصادي وتتجاهل الدول التي أصبحت القدوة الاقتصادية في العالم وترغب في مصادقة لبنان؟
سياسة لبنان المعتمدة من قبل الطغمة الحاكمة مبنية على مفهومين عبثيين: فلبنان يصادق مَن يعاديه ويعادي من يصادقه! ويختار اقتصادياً ما ينحره بدلاً ما يحييه!!! الخيارات السياسية والاقتصادية واضحة مثل ضوء الشمس، لكن ما تفكّر به النخب الحاكمة هو غامض ومريب. فـ “الإصلاحات” التي ينادي بها الغرب والصندوق الدولي في الاقتصاد اللبناني تعني شيئاً واحداً فقط لا غير: خصخصة كل ما يمكن خصخصته وإن بشكل تدريجي. فبيع بعض أملاك الدولة لتخفيف الضغط على الدولار هو الحلّ المفضّل لقراصنة المصارف والطبقة السياسية التي ستتقاسمها وفقاً للمحاصصة المعهودة وكأن لم يكن شيء قد حصل طيلة الأشهر العشر الماضية! فلا حراك تشرين الأول 2019 ولا جائحة الكورونا ولا اختفاء الدولار وارتفاع الأسعار حصل فالعودة إلى صيف 2019 هو الحل!
أما على صعيد التحالفات السياسية فلبنان يمعن بالاستسلام لمشيئة العدو وحليف العدو ويعادي كل من يعادي العدو وحلفاءه. وهنا تظهر مجدّداً البدعة السياسية العبثية التي تنادي بـ “الحياد” عن محاور الصراعات الإقليمية وكأن لبنان خارج الإقليم وكأن فحوى الصراعات لا يستهدف لبنان بشكل رئيسي ليس بسبب وجود المقاومة بل بسبب وجود لبنان وما يمثّله من تحدّ للمشروع الصهيوني. فالصراع على لبنان إقليمياً ودولياً هو ترجمة الصراع على فلسطين وسورية والعراق شاءت أم أبت بعض النخب السياسية في لبنان. فهناك من يعتقد أن لبنان سيكون بألف خير إن لم يكن في مواجهة الكيان وكأن الكيان صديق للبنان أو لهم! فيتجاهلون عمداً أن الكيان الصهيوني له أطماع في لبنان وأن ما يُسمّونه بـ “المجتمع الدولي” منحاز كلّياً للكيان وإلاّ لماذا تخلّف ذلك “المجتمع” عن تنفيذ قرارات الأمم المتحدة التي تؤكّد حق لبنان؟ وهل استرجاع الجزء الأكبر من جنوب لبنان وطرد المحتّل الصهيوني بقوّة السلاح أصبح “مصيبة” على لبنان؟ ليس هدفنا في هذه المقاربة معالجة النداء بالنأي عن النفس أو الحياد أو أي طرح سخيف يضرّ بلبنان ولا يحميه من مخاطر أطماع العدو. بل نكتفي بالإشارة إلى أن التشبيك الاقتصادي الذي ندعو إليه بقوّة وباستمرار يعني الخروج عن متاهات النأي بالنفس والحياد الذي لم يستفد لبنان خلال العقد الماضي. فهل تلك السياسة التي أطلقتها حكومة نجيب ميقاتي والرئيس ميشال سليمان منذ ربيع 2011 أدّت إلى نمو وازدهار اقتصادي؟ تقرير ماكنزي يشير بوضوح أن معدّلات النمو تدنّت بشك ملحوظ منذ تطبيق سياسة النأي بالنفسّ! وهل التخلّي عن رئة لبنان دليل على الحرص على لبنان وأن “سلامة” لبنان في الاختناق الاقتصادي؟ فمقاطعة سورية بحجة واهية أدّت إلى خراب لبنان عبر تحمّل عبء النازحين من سورية وعبر خسارة تجارة الترانزيت تجاه الدول العربية وعبر تجميد الاستثمار بودائع السوريين في المصارف اللبنانية. مع هذه العبقريّة السياسيّة لا عجب أن لبنان يعاني مما هو عليه!
العالم يتجه نحو التكتلات الاقتصادية الكبيرة والإقليمية بدلاً من عولمة كادت تقضي على مقوّمات الدول. وللبنان فرصة ذهبية للالتحاق بالكتلة الاوراسيّة عبر الانضمام إلى طريق الحرير أو طريق الحزام الواحد. لن يحصل ذلك إلاّ عبر التشبيك مع سورية والعراق والجمهورية الإسلامية وتركيا، وإن كانت البداية مع الدول العربية المجاورة. فالمصلحة الاستراتيجية للبنان هي في ذلك التشبيك وفي الانضمام إلى الكتلة الاوراسيّة. بالمناسبة وقّعت الجمهورية الإسلامية في إيران اتفاقاً استراتيجياً مع الصين أفضى إلى استثمار الصين في إيران ما يوازي 400 مليار دولار منها 228 ملياراً في البنى التحتية التي ستحتوي على سكك حديدية تربط الصين بإيران وبين المدن الكبرى في إيران وصولاً إلى الخليج. تُرى ماذا سيحصل للبنان إذا التحق بتلك القاطرة؟ قد لا يحصل لبنان على ذلك الحجم من الاستثمارات، لكن إذا افترضنا عشرة بالمئة فقط فهذا يعني 40 مليار دولار!
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي