أخيرة

البروكار.. هويّة الوطن السوريّ وتقانة احتراف أنامل دمشقيّة مبدعة

 

} جومانة محمود الصالح*

تعتبر الصناعات اليدوية هي المرآة التي تعكس حضارة كل منطقة؛ تروي تفاصيل تاريخها الممزوج بعبق الأصالة والتراث، فلكل مدينة صناعاتها التي تميزت بها عن غيرها من المدن.

اشتهرت سوريا بصناعة النسيج نتيجة موقعها الجغرافي المهم على طريق الحرير التجاري؛ الذي ربط شرق آسيا بدول العالم، حيث كانت القوافل التجارية تنطلق من الصين شرقاً إلى سوريا وصولاً إلى البحر المتوسط، ثم إلى دول أوروبا فشكّل هذا الطريق عصب التجارة العالميّة في ذلك الوقت، وساهم في بناء العديد من الحضارات العظيمة، وباعتبار أن سوريا إحدى محطاته التجارية فقد ابتكرت طابعاً فريداً في صناعاتها كان انعكاساً لحضارات متتالية في المنطقة.

اشتهرت مدينة دمشق بصناعة النسيج كالأغـــباني والبروكار؛ بسبب وفرة المواد الخـــام النباتية «شجـــر التوت»، والحيوانية «دودة القز»، وتفرّدت بصناعة البروكار منذ ثلاثـــة آلاف عام مضت، حيث عُدّ البروكار من أنفس الأقمــشة وأثمنـــها، يتمـــيّز بنعومة ملمسه، وهو قماش من الحرير الطبيعي موشـــى بخيوط الذهب والفضـــة ومحلّى برسوم نباتية وطيور، يمنح البرد في الصــيف والدفء في الشتاء.

يُصنع البروكار من الحـــرير الذي تنتجه دودة القز التي تنمو على شجر التوت، فقد تركزت تربية دودة القز في محافظة حماه واللاذقية، وخاصةً في محافظة طرطوس في بلدات (دريكيش، وبانياس، وصافيتا، والشيخ بدر)، حيث احتـــلت سوريا المرتبة الخامسة عالمياً بإنتاج دودة القز، فقد بلغ إنتاجها عام 1856 ثمانية أطنان من شرانق الحرير، وجدير بالذكر أن بلدة دريكيش كانت تنتج الحرير الطبيعي، وترسله إلى حلب؛ لمعالجته وفتله وتبييضه حسب الطلب.

ونتيجة التنقيبات الأثرية عثر في تدمر على أكبر المخابئ من المنسوجات القديمة، حيث وجد أكثر من ألفي قطعة قماش حريريّ، باعتبار تدمر محطة تجارية على طريق الحرير آنذاك.

في فترة الاحتلال العثماني للوطن العربي، أبدى العثمانيون اهتماماً شديداً بصناعة البروكار، وقاموا باحتكاره ونقله إلى مدينة استانبول، لكنهم فشلوا في ذلك.

وخلال عهد الاحتلال الفرنسي أيضاً اهتم الفرنسيون بصناعة الحرير في سوريا واحتكروه لمصانع بلادهم، وكما تذكر المصادر التاريخيّة أن مدينة ليون الفرنسية أبدت اهتمامها بالحرير السوريّ ومحاولة تأمينه للسوق الفرنسية، ويجدر بالإشارة هنا إلى تعرّض كبار تجار الحرير في بلاد الشام إلى القتل والاغتيال على يد فرنسا مثل: بشارة صوصة من لبنان، و آل المسابكي من دمشق، وحاولت فرنسا نقل صناعة البروكار إلى مدينة ليون الفرنسية، حيث أرسلت المهندس الفرنسي فيليب جاكار الذي قام بدوره بزيارة دمشق واطلع على النول الدمشقي القديم، ورسم تفاصيله، ليصمّم نولاً شبيهاً له في فرنسا مع تطويره إلى الآلة الميكانيكيّة، وسمّي فيما بعد (بالجاكار الميكانيكي)، نسبةً إلى مصمّمه الفرنسي جاكار، ورغم كل هذه المحاولات لم تفلح فرنسا في تحقيق غايتها بسرقة صناعة البروكار الدمشقي ونقله إلى فرنسا، وطمس معالمه في دمشق؛ نتيجة افتقارهم إلى المادة الأوليّة «الحرير الطبيعي» واستخدامهم النول الميكانيكيّ الذي أنتج قماشاً يختلف في جودته وتقانته عن البروكار الدمشقي الأصليّ، ناهيك عن القيمة الفنية ورهافة الصنع الدمشقيّة التي اعتمدت على الحرفي الخبير المتقن، والرهافة الفنيّة، وعلى النول اليدويّ.

اشتهرت في مدينة دمشق عائلة المسابكي في صناعة البروكار وبعد الاغتيالات التي شنّها المحتل الفرنسي ضد حرفيّي العائلة انتقلت الحرفة إلى عائلة الأيوبي.

غزا البروكار الدمشقي أوروبا باسم «الدامسكو» نسبةً إلى مدينة دمشق Damascus، ومن خلال قراءتي لكتب عدة وصلت إلى استنتاج أن البروكار دخل إلى أوروبا عن طريق الأندلس «إسبانيا» التي عُرف سكانها بارتداء الثياب العربية الشرقية التي كانت تُعرف (بالديباج) وهو الاسم القديم للبروكار، فوصل صداه إلى الأغنياء والنبلاء والملوك والأمراء حيث ارتدى البابا يوحنا بولس ثوباً من البروكار مطرّز بالنقش الكنسي، كما اقتنى البابا بينيديكت ثوباً من البروكار كان قد أهداه إياه أنطون مزنرالذي قام بنقل صناعة البروكار من النول اليدوي إلى الميكانيكيواهتمت الملكة أنطوانيت زوجة الملك الفرنسي لويس السادس عشر بالبذخ والترف وشراء الأثواب الثمينة فارتدت ثوباً من البروكار الدمشقي، إضافةً إلى إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا التي ارتدت ثوباً من البروكار الدمشقي قدّمه لها الرئيس السوري آنذاك شكري القوتلي عام 1947 كهدية بمناسبة زفافها بعد أن اشتراه من معمل المزنر، وقام بحياكته المعلم قاسم الأيوبي في معامل النعسان في باب شرقي على نول يدويّ.

جديرٌ بالذكر أن شهرة البروكار الدمشقي لم تكن بسبب اهتمام الملوك به، بل بسبب جودته الفائقة، ورهافة إتقانه، وقيمته الفنية، وأصالته العريقة.

سُمّي البروكار قديماً بالديباج، فكلمة بروكار كلمة أجنبية البعض يعود بأصلها إلى الفرنسية والبعض الآخر إلى الكردية، وبعض علماء اللغة يعود بأصلها إلى الآرامية (برو = وتعني حياكة، كار=تعني مهنة).

أما الدامسكو فهو البروكار الذي عُرف في أوروبا، قماش مقلّد للبروكار مصنوع من الحرير و موشى برسوم ونقشات هندسية ونباتية لا تمت بصلة إلى أي حضارة، على عكس البروكار الدمشقي الذي نقشت عليه رسومات مستوحاة من حضارات مجاورة مثل (صيد الغزلان ورقصة الجواري وزهرة عمر الخيام من حضارة بلاد فارس)، و(اللوزة الكردية وزهرة الكشمير)، إضافةً إلى رسوم دينية (سفينة نوح)، أو تراث منطقة أو حياة يومية (شجر البندق واللوز والياسمين المتواجد بكثرة في البيوت الدمشقية).

ما زال البروكار متداولاً في مدينة دمشق في مجلس الشعب، ومقاعد قاعات الشرف في مطار دمشق الدولي، ويعدّ وشاح أمية أرفع وسام رئاسي سوري مصنوع من البروكار الدمشقي على نول يدوي وموشى بخيوط الذهب.

بعد انتشار البروكار في أصقاع العالم بدأ يشقّ طريقه نحو الاندثار نتيجة إغلاق معمل دريكيش في طرطوس، فضلاً عن عزوف أصحاب الأراضي عن تربية دودة القز بسبب منافسة الحرير الصناعي، وارتفاع سعر الحرير الطبيعي وتكلفة إنتاجه.

وخلال الأزمة السورية التي حلّت في عام 2011 تناقصت المواد الأولية، واليد العاملة الخبيرة، وهجرة المدربين والحرفيين إلى الخارج، لكن ذلك لم يثنِ من عزيمة دمشق حيث عملت الحكومة السورية على افتتاح سوق للمهن اليدوية في التكية السليمانية للحفاظ على ما تبقى من صناعات يدوية أصيلة، ورعايتها والترويج لصناعتها وجذب السياح، والاهتمام بها في سبيل المحافظة على تاريخ وتراث المنطقة التي حاول المستعمر سابقاً والكيان الصهيوني حالياً في طمس معالمها وسرقة هويّتها السورية المشرقيّة.

 

*باحثة فلسطينية سورية في التراث والتاريخ.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى