مثاليّة «حياد لبنان»…
} د. عصام الحسيني
عبر التاريخ، كتب فلاسفة في علم السياسة عن تصوّرات لنظم سياسية، غاية في المثالية، تقوم على مبدأ العدل والمساواة.
فكتب أفلاطون في كتابه “الجمهورية” عن صفات الدولة المثالية، من حيث شكل الحكم، التقسيم، والوظيفة، كنموذج نظري يؤدي إلى مجتمع سياسيّ مستقر، بقيادة حاكم فيلسوف.
ومثله كتب الفيلسوف الفارابي في كتابه “المدينة الفاضلة”، عن تصوره لنظام سياسي مثالي، يجمع بين النظرية الدينية الإسلامية والفكر الفلسفي، ويؤدي إلى استقرار في الحكم، ويحقق سعادة الأفراد، ويكون الحاكم إماماً وفيلسوفاً.
إذا النظرة المثالية في تصور النظم السياسية، هي قديمة في الفكر السياسي، وهي غاية تسعى إلى تحقيق نظام سياسي اجتماعي، تسوده الفضيلة والسعادة.
لكن، هل تمّ تحقيق هذا التصور المثالي، على أي نظام سياسي في التاريخ القديم والحديث؟
في استعراض لتاريخ النظم السياسية المطبقة في الحكم، وعلى أرض الواقع، لم يثبت تطبيق أي نظرية مثالية، بل على النقيض من ذلك، كانت تطبق النظريات الواقعية بكل صورها.
إن تشكل النظم السياسية للدولة أو الجماعة، كانت دائماً تقوم نتيجة عوامل قوى تتناقض مع مفهوم المثالية، وأهمها وأبرزها نظرية ابن خلدون في كتابه “المقدمة” حيث يقول: إن تشكل السلطة أو الدولة، يستند إلى عنصر القوة، والتي أشار اليها بنظرية العصبية.
وفي الواقع، إنّ عنصر القوة هو العنصر المقرّر والفاعل، أكان ذلك على مستوى الدولة القومية، أو على مستوى المجتمع الدولي، ويبقى للقانون الدولي تأثير محدود من حيث الشكل.
انطلاقاً من هذه المقدّمة الموجزة، نستعرض إشكاليّة الواقع السياسي اللبناني القائم، حيث الدولة لا تنعم بالاستقرار، نتيجة عوامل داخلية متعدّدة، مضافاً إليها دخول العوامل الخارجية المتشابكة والمتناقضة، في طبيعتها وأهدافها.
وهذه الإشكالية الشعار “حياد لبنان”، تعني في المفهوم النظري، إخراج وإبعاد لبنان من المحاور والصراعات الإقليمية والدولية، خدمة لمصالحه الوطنية.
قد يبدو الشعار براقاً ومثالياً، لكنه لا ينسجم مع الواقع.
لبنان بلد عربي في جغرافية الشرق الأوسط، وهو غير منفصل عن واقعه ومحيطه.
ما هو تفسير “حياد لبنان”، وحياده عمّن وعن ماذا؟ التاريخ أم الجغرافيا؟
لقد رفعت شعارات سابقة تشبه هذا الشعار من حيث الشكل مثل: “إعلان بعبدا”، أو “لبنان أولاً”، وكلها شعارات لا ترقى إلى مستوى التطبيق على أرض الواقع.
إنّ أزمة لبنان هي أزمة الشرق الأوسط، وهي أزمة قوميّة وليست قطرية، ترتبط في جزء أساسي منها بالصراع العربي الإسرائيلي، وفي جزء آخر بالصراع الدولي القائم في الشرق الأوسط.
في المحور الأول:
وهو الصراع العربي الإسرائيلي، كيف يمكن أن يكون لبنان على حياد، في ظلّ احتلال لأرض فلسطين، ولأجزاء من العالم العربي، ومنها لبنان؟
لقد تعرّض لبنان ومنذ قيام كيان العدو الصهيوني، لأكثر من عدوان، وتسبّب في أضرار بشرية ومادية كبيرة جداّ، ولا يزال التهديد بالعدوان حاضر في أيّ وقت.
ولم تمنع علاقة لبنان الجيدة بالغرب، في منع العدوان المتكرّر أو الحدّ منه، بل كان الغرب دائماً يجد مبرّراً لعدوان العدو ويحميه.
وهذا الغرب الصديق والحليف للبنان، لم ينجح في تطبيق القرار الدولي رقم 425، ولا بمحاسبة العدو على مجزرة قانا، على أرض معسكر القوات الدوليّة في الجنوب.
فهل شعار “حياد لبنان” ينطبق على واقع الصراع القائم مع العدو؟
في المحور الثاني:
وهو الصراع القائم مع القوى الاستعماريّة، وفي المقدّمة الولايات المتحدة الأميركيّة، في الاقتصاد وفي السياسة:
في الاقتصاد، تسعى إلى استيلاب ثروات الشعوب، وخاصة الثروة النفطية في الشرق الأوسط.
وفي السياسة، تسعى القوى الاستعماريّة، إلى فرض حلول سياسية للصراع العربي الإسرائيلي، ولمصلحة كيان العدو، عبر ما يُعرَف بـ “صفقة القرن”، والتي تتناول لبنان مباشرة، من خلال بند توطين الفلسطينيين في لبنان بالإكراه والقوة.
فكيف يكون “حياد لبنان” من الطرح الأميركي، وهل يقبل هذه الشروط الكارثية بحجة الأمر الواقع، وخاصة أننا في ظل أزمة اقتصادية خانقة؟
وكيف يكون “حياد لبنان” من الضغوط الأميركية، لترسيم الحدود البحرية لمصلحة العدو الصهيوني، حيث يعمل على سرقة جزء كبير من ثروة لبنان من الغاز؟
وكيف يعالج “حياد لبنان” الضغوط الأميركية على الأمم المتحدة، لتعديل مهمة القوات الدولية في جنوب لبنان، وتوسيع بقعة انتشارها على الحدود اللبنانية السورية، أو التهديد بقطع التمويل المالي عنها، وهي تعديلات تخدم مصالح العدو الصهيوني؟
وكيف يفسّر “حياد لبنان“ من تدخل السفارة الأميركية في لبنان، وخلافاً لما نصّت عليه معاهدات فيينا للتمثيل الدبلوماسي، في رسم معالم السياسة الداخلية والخارجية، وتحديد الصديق والعدو الداخلي والخارجي، وكتابة البيانات والقرارات، لبعض السياسيين والصحافيين ورجال الدين الأصدقاء؟
وهل وجود السفارة الأميركيّة في لبنان، من حيث المساحة والحجم والدور الاستخباري الذي تمارسه، على لبنان وعلى قسم من محيطنا الجغرافي السياسي، مقبولاً في ميزان المصلحة الوطنية والقومية اللبنانية؟
وأين هو “حياد لبنان” من هذه الاستباحة الأميركيّة المطلقة القائمة؟
في الحقيقة:
لبنان يقع في قلب الصراع القائم في منطقة الشرق الأوسط، وأن نظرية “حياد لبنان” المثاليّة، تشبه نظرية جمهورية أفلاطون، ومدينة الفارابي، من حيث اللاواقعية.
وهنا نأتي إلى السؤال التالي: متى كان لبنان في تاريخه السياسي حيادياً؟
تاريخياً، وفي ظلّ نظام الإمارة في جبل لبنان، تحالف الأمير المعني فخر الدين مع إمارة توسكانة، في وجه السلطنة العثمانية، وأخصامه في الداخل.
وكذلك فعل الأمير بشير الشهابي، حيث تحالف مع والي مصر “محمد علي”، في وجه السلطنة العثمانية وأخصامه في الداخل.
ومع قيام الجمهورية اللبنانية، كانت الأحلاف قائمة مع فرنسا والغرب، ولو على حساب المصلحة الوطنية والقومية، مروراً بحلف بغداد زمن الرئيس الراحل كميل شمعون، وصولاً إلى حلف “بشير – شارون”، وما تبعها من ويلات على الوطن.
إنّ لبنان بفعل عامل الجيوبولتيك، لم يكن يوماً بعيداً عن أحلاف المحاور، بل كان دائماً حاضراً في المحور الغربي، وما يزال.
هذا المحور والذي يرفض معظم السياسيين اللبنانيين الخروج منه، لم يحفظ للبنان مصالحه الوطنية والقومية، بل أوصله إلى ما نحن عليه اليوم، من فشل للنظام السياسي المتخبط في أزماته، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
كل هذه العوامل الإشكالية، المحلية والإقليمية والدولية، تجعل من مقولة “حياد لبنان” غير منطقية، في ظل شرق أوسط متفجر في الصراعات المتعدّدة والمتشابكة، في السياسة والاقتصاد والأمن.
والسؤال ليس في فرضية الحياد أو عدمه بل:
متى يكون لبنان الرسميّ في المحور الذي يحفظ مصالحه الوطنية والقومية، ويُعيد له حقوقه الطبيعية، وسيادته التي انتقصها المحور الغربي؟