في الذكرى الـ 68 لثورة يوليو بانتظار مصر… المستهدَفة في أمنها وتنميتها ودورها
معن بشور _
كان معارضو الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يتهمونه بأنّ سياسته الاستقلاليّة التصادميّة مع القوى الاستعمارية والصهيونية وأدواتها، ومساندته للثورات التحررية لأبناء أمّته وأحرار العالم، هي سبب ما واجهته مصر من حروب ومؤامرات وحصار على مدى سنوات بعد انطلاق ثورتها المجيدة في 23 تموز/ يوليو 1952..
وكانت هذه الاتهامات هي الذريعة التي استخدمها أنور السادات في ثورته المضادة التي أخذت اتجاهاً معاكساً في سياساتها الداخلية والخارجية حتى وصلت إلى معاهدات كمب دايفيد وما رافقها من تنازلات لصالح السياسات الأميركية والصهيونية على المستوى الدولي، ولصالح سياسات الأنظمة العربيّة المعروفة بعدائها التاريخي لجمال عبد الناصر.
وكانت هذه السياسات ترتكز على فكرتين بسيطتين، أولهما ضرورة انكفاء مصر عن الدوائر الثلاث التي رسمها لها جمال عبد الناصر في كتابه “فلسفة الثورة” الصادر عام 1954، وهي الدائرة العربية والإسلامية والأفريقية، وثانيهما الانحياز الكامل للمشيئة الأميركية تحت شعار أن 99 % من أوراق اللعبة بيد واشنطن. والتأكيد على ما يحمله هذا الانحياز من “ثمار اقتصادية” واجتماعية وأمنية لأرض الكنانة وشعبها الرازح تحت ضغط الحاجة.
وتراوحت تلك السياسات الرسمية المعتمدة في مصر بعد رحيل جمال عبد الناصر بين تواطؤ علني مكشوف مع السياسات الأميركية والإسرائيلية، وحرص مبالغ فيه على عدم إحراج الكيان الصهيوني، ومراعاة شديدة لحساسيات أنظمة محافظة في المنطقة، وصولاً إلى الحذر من اتخاذ أي خطوة أو قرار يمكن أن تغضب الأطراف المهيمنة إقليمياً أو عالمياً..
لكن ما تواجهه مصر هذه الأيام يبدّد تلك الأفكار الخاطئة التي قامت عليها السياسات المصرية في الداخل والخارج معاً، فاستهداف مصر في أمنها المائي عبر “سد النهضة”، وأمنها الوطني فيما يحدث في سيناء، وأمنها القومي فيما يجري في ليبيا المجاورة من احتراب يتّسع مداه منذ أن غزا حلف الناتو هذا البلد الشقيق عام 2011، وما زال هذا الحلف يغزو ليبيا بأشكال متعددة مهدداً بنقل الفوضى الليبية شرقاً نحو مصر، وغرباً نحو تونس والجزائر وحتى المغرب، وجنوباً نحو دول الساحل والصحراء الأفريقية..
واللافت في هذا الاستهداف أنه يأتي رغم اتباع القيادة المصرية سياسة مهادنة للغرب الاستعماري وأدواته في المنطقة لدرجة أن هذه السياسات باتت منذ اتفاقية كمب دايفيد قبل 41 عاماً، موضع انتقاد شديد، بل وهجوم قاذع أحياناً، من قبل العديد من الوطنيين المصريين وحركات التحرر في الوطن العربي والعالم..
وبات واضحاً أن استهداف مصر ومحاصرتها على النحو الذي نراه اليوم، هو استهداف لمصر ذاتها، بوزنها وحجمها ودورها وشعبها وقواتها المسلحة وأمنها الغذائي والوطني والقومي، ولموقعها التواصلي بين مشرق الوطن العربي ومغربه، ومكانتها القيادية في أمّتها ومحيطها والعالم..
ومن يتابع العديد من الدراسات والأبحاث الإسرائيلية وتصريحات الخبراء والمحللين العسكريين الصهاينة يلاحظ تركيزهم المتكرّر على الخطر الذي تشكله مصر وجيشها البطل بحدّ ذاتها، وبغض النظر عن السياسات المتبعة فيها، على الوجود الصهيوني نفسه، ناهيك بالمصالح الاستعمارية وبالجهات المرتبطة بها..
فالمستهدف إذن مصر أياً كان حاكمها، وأياً كانت سياساتها، فكيف إذا بدأت مصر تتبع منذ سنوات سياسات فيها الحد الأدنى من الحرص على بناء قوة اقتصادية تعالج الأحوال البائسة للشعب المصري، وبنى تحتية توفر شروطاً مادية لنهوض متجدد، وقوة عسكرية تجعلها تمتلك جيشاً من أقوى جيوش المنطقة، واعتماد سياسة عدم الانزلاق في حروب وفتن في الاقليم، لا سيّما في سورية (الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة)، وفي اليمن التي يشكّل بابا المندب البوابة الجنوبية للبحر الأحمر الذي تشكل قناة السويس بدايته الشمالية ..
وتتضح هذه الأيام أنّ الدول العربية والإسلامية كافة والمستهدفة بحروب القوى الاستعمارية والصهيونية وحصاراتها وفتنها من العراق إلى سورية إلى لبنان إلى ليبيا إلى اليمن وصولاً في المستقبل إلى دول في المغرب العربي والخليج والجزيرة العربية، بل إلى دول الإقليم كالجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتركيا نفسها، ودول الجوار الأفريقي، كانت مستهدفة لذاتها، ولدورها، ولموقعها، قبل أن تكون مستهدفة بسبب أنظمة تحكمها أو سياسات تتبعها…
ولعلّ في إدراك أبناء أمّتنا العربية والإسلامية لهذه الحقائق ما يوفر علينا الكثير من المتاعب والأوجاع والحروب التي نعاني منها، خصوصاً إذا وجهنا أنظارنا وجهودنا نحو مقاومة الخطر الرئيسي الذي يتهدّدنا، وهو الخطر الصهيوني الاستعماري، وإفرازاته في الفساد والاستبداد، وتجاوز كلّ الصراعات الأخرى..
وبهذا المعنى يبقى تحدّي استهداف مصر، بأمنها المائي والوطني والقومي، فرصة لمصر لانتهاج سياسات جديدة تعيد لها دورها ومكانتها في أمّتها ومحيطها والعالم، وفرصة لأبناء الأمّة كلها أن يروا في استهداف مصر جزءاً من استهداف الأمّة كلها بكل أقطارها، لا سيّما القطر – القلب الذي هو فلسطين..
لقد نجح جمال عبد الناصر قائد ثورة 23 يوليو في أن يحوّل استهداف مصر في أواسط خمسينيات القرن الفائت عبر أزمة السد العالي وما تلاها من تأميم لقناة السويس وعدوان بريطاني – فرنسي – إسرائيلي عام 1956، إلى فرصة تاريخية جعلت من مصر قائدة لأمّتها ومحيطها ولما كان يُعرَف آنذاك بالعالم الثالث..
فهل تنجح مصر اليوم، بقيادتها الرسمية والشعبية، في تحويل الاستهداف الخطير الذي تواجهه إلى فرصة تستعيد معها مصر دورها الريادي ومكانتها القيادية في أمّتها ومحيطها في العالم..
لقد بقي من إنجازات ثورة يوليو الكثير في أكثر من مجال، لكن أهمّ ما بقي منها هو تلك الدروس البالغة الأهمية التي استخلصتها عبر تاريخها الطويل والتي يمكن تلخيصها بالشعارات التالية:
1 ـ نصادق مَن يصادقنا ونعادي مَن يعادينا.
2 ـ ما أخذ بالقوة لا يستردّ إلاّ بالقوة.
3 ـ المقاومة وجدت لتبقى وستبقى…
4 ـ أن مَن يساوم في حق من حقوق أمته يوماَ يبقى أبد الدهر مزعزع العقيدة سقيم الوجدان.
فهل يحق لنا أن نحلم في الذكرى الـ 68 لثورة يوليو، وفي جو احتفالنا بانتصار لبنان المقاوم عام 2006، باستعادة روح تلك الثورة المجيدة وبارتفاع راياتها من جديد..
إن الظروف الموضوعية والمتغيّرات الإقليمية والدولية تسمح لنا بهذا الحلم، فهل تتوفر الإرادة والقيادة والشروط الذاتية للاستفادة من هذه الظروف والمتغيرات لتحقيقه؟..
نحن بانتظار مصر.. قلناها في حلكة ظلام “كمب دايفيد” قبل أربعين عاماً، ونقولها اليوم.. فمع مصر، حاملة مبادئ ثورة 23 يوليو أهداف مشروعها النهضوي، تستعيد الأمة كلها توازنها.. ويتحوّل الإقليم بتنوعه إلى ساحة تكامل بين أركانه، لا ساحة هيمنة لركن على آخر.
*الأمين العام الأسبق للمؤتمر القومي العربي.