مروان محفوظ… سيف الأغنية رحل غريباً
جهاد أيوب
ليس مهماً كيف مات، بالكورونا أو بغيرها، الأهم أننا خسرنا فناناً كبيراً في أخلاقه، وصوته، وتهذيبه، وفنه، ووطنيته البعيدة عن الطائفيّة، وعروبته الحاسم في إثباتها.
صوته كالسيف يدغدغ مشاعر فارسه، ويفرض وجوده في ساحات الغناء، وبريق رنينه يذكر مسامعنا بالأصالة، وبجرس الكنيسة وصوت المؤذن… هذا هو صوت مروان محفوظ الذي غيّبه الموت غريباً عن وطن لم يعُد يُشبهه، وفن لا يعرف الفن الأصيل الذي تربّى عليه ومارسه من دون أن يتنازل عن الكلمة المسؤولة، واللحن الشرقي القريب إلى الأجواء الريفية العريقة.
حينما استمع إليه الهرم وديع الصافي بعد أن ظهر عبر تلفزيون لبنان لأول مرة من خلال برنامج “الفن هوايتي” أعجب به، وحينما أدى أمامه “طلّ الصباح” شعر بأنه ستكون له شخصية فنية، قرّبه منه، وقدم له الكثير من النصائح ومن ثم الألحان، لا بل كان دائماً يتحدث عنه بالخير، وأول نصيحة كانت تغيير اسمه من انطوان إلى مروان محفوظ… أذكر أخبرني الأب والمبدع وديع الصافي: “الاسم مفتاح مرور إلى كل الناس قبل الصوت»!.
أول ظهور فني مهم له كان مع السيدة صباح في أوبريت الأخوين رحباني “دواليب الهوى” على أدراج بعلبك، وما أن نذكر اسمه أمامها تبادر صباح بالبوح بسرعة “فنان كله أخلاق”.
حينما رحلت الأسطورة صباح اتصلت به معزّياً، وطالباً تصريحاً منه، فقال: “أعرفها منذ صغري كما أعرف وديع، وحينما عملت إلى جانبها في بعلبك شعرت بقيمة الفنّ والفنان، ملتزمة بالوقت، وبملاحظات وبتعليمات المخرج، لا تشتكي، لا تنق، ولا تثرثر، وتحفظ بسرعة، ورغم أننا كنا في بداية المشوار وهي نجمة كبيرة كانت متواضعة، وتعاملنا كما لو كنا بمستواها، وتأكل معنا، ولا تخجل من تواضعها”.
وأيضاً حينما رحل الموسيقار ملحم بركات اتصلت به للغاية ذاتها، يومها طلب إعفاء دمعته وحزنه، وحسم كلامه: “صديق كبير، فنان كبير، قلب كبير لا أستطيع الحديث»!.
قدّم مروان محفوظ تجربة مهمة في الفنّ من خلال المسرح الاستعراضي اللبناني في أعمال الأخوين رحباني من عام 1965 إلى 1973، كما ذكرنا كانت الانطلاقة في “دواليب الهوى”، و”أيام فخر الدين”، و”هالة والملك”، و”الشخص”، و”يعيش يعيش”، و”صح النوم”، و”ناس من ورق”، و”المحطة”، و”قصيدة حب”.
كما سافر معهم لإحياء حفلات مهمة على مسارح عربية، والسبب أن الأخوين رحباني أعجبا به كثيراً.
تجربة المسرح كانت في ذاك الوقت جواز مرور غالبية المطربين في لبنان خاصة أبناء جيل مروان، إلى حين ظهور “ستديو الفن”، وشركات التبني، ومروان بذلك عاش تجربة مشابهة إلى جانب رفاق عمره ودربه نذكر جوزف عازار وملحم بركات، وأيضاً عصام رجي وسمير يزبك، وقد حلم مروان مثلهم بنجومية يستحقونها، ولكن الحرب التي اندلعت عام 1975 أحرقت اخضرار أحلامهم، وعوّضوا عنها بالغناء هنا وهناك، وبعض التسجيلات الخاصة، وشطارة إثبات نجومية الحضور.
الأردن فتحت أبوابها للمطرب مروان، وسورية عانقته وأحبته، ودللته، وعاملته كأبنها طيلة سنوات الحرب وما بعدها حتى مات على ترابها!
يمتلك مروان محفوظ صوتاً جهاراً من الأصوات الجميلة، وصعبة التقليد، وذات خامة لافتة، وتميّزه بين مئات الأصوات، إضافة إلى تطويعه بشكل جميل وسهل وممتنع، يغني الدو كما المقام العالي، صوت متمكّن، عربه صحيحة، ونطقه لا يشوه الكلمة، والأهم يغني مع اللحن بطريقة سليمة على عكس ما هو حاصل اليوم!
تعاونه اللافت كان مع زياد الرحباني في “سهرية” إلى جانب جوزف صقر وجورجيت صايغ، هذه المسرحية كرّسته بطلاً بجدارة، وألحان زياد له كانت مناسبة، وأطلقت شهرته إلى أوسع من محيط لبنان وسورية، بل إلى كل الوطن العربي، نذكر “يا سيف عالأعدا طايل” وهذه رسمت شخصية ثابتة له، وتغنى في كل المناسبات، وأغنية “خايف كون عشقتك وحبيتك” تردّد حتى الآن.
كما قدم مسرحية استعراضية خارج لبنان “نوّار” كتبها الشاعر غسان مطر، ولحنها كل من فيلمون وهبي، ووديع الصافي، وزياد الرحباني، وعازار حبيب، ولعبت دور البطولة أمامه ملكة جمال الكون جورجينا رزق، وعرضت في الكويت وأستراليا وسورية والأردن.
المتابع لمسيرة مروان يكتشف أن صوته بحدّته ورقته وعذوبته لم تغب عنه الشمس، ومع العمر، والوضع الصحي حافظ على ما ذكرت انفاً في صوته، ونبرته السليمة لم تكن تشعرنا بشيخوخة صاحبها، وهذا نادراً ما يحدث!
غنى مروان محفوظ للعديد من كبار المؤلفين والملحنين، نذكر منهم: الأخوين رحباني، زياد الرحباني، وديع الصافي، فيلمون وهبي، إلياس رحباني، سهيل عرفة، جوزيف أيوب، عبد الفتاح سكر، وغيرهم..
ومن الشعراء نذكر الأخوين رحباني، موسى زغيب، عبد الجليل وهبي، عيسى أيوب، بطرس ديب، غسان مطر.
أما في السينما فاشترك في فيلم الأخوين رحباني “سفر برلك”، وفيلم “فتيات حائرات” مع الممثلة إغراء.
كلمته شخصياً منذ شهر ليحل ضيفاً في برنامجي فكانت النتيجة أنه في سورية، ومات في سورية التي عشقها، أحبها، وهي بادرته كل الحب والعشق وأكثر!
كان سعيداً بأنه سيغني على خشبة مسرح دار الأوبرا السورية بدمشق في 23 حزيران من هذا العام 2020، ولكن الموت كان أسرع، وأرداه ليسمعه لحن الرحيل.
في موت المطرب الكبير مروان محفوظ، والذي لم نعرف كيفية أن نكرّمه، ولم نتواضع معه كي نحافظ على قيمته كعادتنا كما نفعل مع مَن يرسموا صورة الوطن الجامع والكبير والحلم والتحضر، كأنها عادة ورثناها من غالبية زعاماتنا السياسية!!
في موته خسرنا حبة من الحبات الأخيرة من عنقود الإبداع اللبناني الذي كان في مرحلة مشرقة عرفتها الشمس على عكس اليوم فمراحلنا محرجة في عتمة مخيفة!