ماذا تعني فرضيّة معركة بين حربين؟
ناصر قنديل
– يعود استخدام مصطلح معركة بين حربين لستينيات القرن الماضي والأزمة التي نشبت بين واشنطن وموسكو حول كوبا، وعرفت بأزمة خليج الخنازير، عندما عزمت واشنطن على غزو شبه الجزيرة الكوبية، وعزمت موسكو على نشر صواريخ نووية على أراضيها، وكاد التصادم بين المشاريع يؤدي إلى الانفجار، فخرج معارضو التصعيد في واشنطن يحذرون من حرب عالمية ثالثة، وكان جواب دعاة التصعيد أنها لن تكون حرباً عالمية بل ستكون «معركة بين حربين»، والمقصود أنها معركة وليست مجرد إطلاق نار بسيط، لكنها لن تتحوّل إلى حرب، بل هي معركة بين حرب وقعت هي الحرب العالمية الثانية وحرب لم تقع هي الحرب العالمية الثالثة، وأن هذه المعركة سترسم موازين القوى مجدداً، حتى لو شهدت استخداما للسلاح النووي فسيكون استخداماً تكتيكياً موضعياً، يمنع نشوب الحرب العالمية الثالثة. وفي النهاية فازت المخاوف من الإنزلاق للحرب على تسويق فرضية المعركة، وتمت تسوية النزاع بتراجع متوازن، فتخلت واشنطن عن غزو كوبا وتعهدت بالامتناع، وتخلت موسكو عن نشر صواريخها النووية في كوبا وتعهدت بالامتناع.
– استعاد منظرو الحرب في كيان الاحتلال نظرية المعركة بين حربين في توصيف ما يقوم به جيش الاحتلال من عمليات حربية في سورية، لتكبير حجرهم وتظهير جيشهم بمقدرات استراتيجية ليست عنده، فوصفوا الغارات بأنها جزء من معركة بين حربين، حرب تموز 2006، وحرب مقبلة، والتوصيف فيه الكثير من المبالغة، فالمعركة لم تقع بعد، وما يجري هو ضربات متفرقة تتفادى الحرب والمعركة في آن واحد، وشرط المعركة بين حربين غير متوافر هنا، في عمليات جيش الاحتلال، وهو جاهزية الفريقين المتقابلين للحرب وعزمهما على المضي قدماً، ونجاح كل منهما بقوة الردع التي يملكها بفرض خوض الحرب بضوابط وسقوف تجعلها معركة بين حربين، وتعيد ترسيم التوازنات، وبناء معادلات القوة. أما عمليات جيش الاحتلال في سورية، فهي تتراوح بين ضربات تكتيكية لتأخير جهوزية المقاومة في بناء قدراتها الرادعة وخصوصاً في مجال الصواريخ الدقيقة وتعترف بالعجز عن منع المقاومة من ذلك، لأنها تخشى الحرب والمعركة معاً، ورسائل سياسية تتصل بقواعد الاشتباك ومشاريع تعديلها من طرفي المواجهة، صعوداً وهبوطاً. وهي هنا بالتأكيد أقل من حرب ومعركة، أو رسائل إعلامية لداخل الكيان أو للجماعات المناوئة للدولة السورية في لحظات تعرّضها للهجوم لرفع معنوياتها، وهذه لا تستحق إدراجها بمنزلة المعركة بين حربين. فهل يمكن أن تتوافر الآن شروط المعركة بين حربين؟
– المؤشرات التي تتيح مثل هذا الاستنتاج، تبدأ من حجم الاحتباس السياسي في العلاقات بين محورين متقابلين، محور تقوده واشنطن ومحور تقوده طهران في كل ملفات النزاع، ويضاف إليها التوقيت الحساس المرتبط بحجم الضائقة الاقتصادية في واشنطن بسبب الركود والإقفال الاقتصادي، وفي طهران بسبب العقوبات والحصار، وتحول الهم الاقتصادي مع هاجس مواجهة كورونا هموماً تتقدم الهموم السياسية، وفوقهما التوقيت السياسي المرتبط باقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية، وفيما تشكل الضغوط الأميركية على الجبهتين اللبنانية والسورية محاولة لتفاوض غير مباشر على شروط للانسحاب الأميركي مقابل ضمانات لأمن الكيان ومصالحه، بانسحاب إيران وقوى المقاومة من سورية، يصير للتجاذب الدائر وظيفة ذات وزن استراتيجي لا يمكن التساهل بمساراته ومعانيه، بينما كيان الاحتلال في ظرف صعب يجعله عاجزاً عن خوض حرب، لكنه عاجز عن تلقي ضربة، ومحور المقاومة بالمقابل عاجز عن المبادرة لحرب، وعاجز عن قبول تعديل قواعد الاشتباك لتحمل تبعات ضربة دون رد، ومع ارتفاع لهجة التهديد على لسان رئيس حكومة الاحتلال بالردّ على أي ردّ تقوم به المقاومة ينكشف عجز الكيان عن تحمّل ضربة، وينفتح احتمال تحوّل رد المقاومة على الغارة التي استهدفت محيط مطار دمشق واستشهد بنتيجتها أحد مجاهدي المقاومة، إلى بوابة لتصعيد يمكن أن يشكل فرصة لمعركة بين حربين، بما تعنيه من الامتناع عن الدخول في مواجهة مفتوحة شاملة، والسعي لاختبار المقدرات المتقابلة أملاً برسم معادلات وتوازنات جديدة.