نهضة البحث العلمي في لبنان مدخل لتحقيق السيادة والإستقلال
} البروفسورة جومانا طفيل الطفيلي*
لا يمكن لأيّ مجتمع مهما علا شأنه أن يكون مستقلاً إذا كان يستورد من الخارج معظم حاجياته الزراعية والصناعية والطبية الضرورية والمواد الأولية لمختلف قطاعاته. وهذا المجتمع يبقى أسيراً للدول المنتجة والمصنّعة التي ستملي عليه سياساتها في كلّ أمر من أموره. لذلك فإنّ التوجه نحو مجتمع منتج زراعياً وصناعياً وطبيّاً يشكل البوابة الرئيسة نحو استقلال ليس فقط اقتصادياً بل وسياسياً بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معاني رديفة للسيادة والاستقلال.
على أنّ الدول لا يمكن لها أن تطوّر إنتاجها الزراعي والصناعي ما لم يكن ذلك مبنياً على أساس قوي في مختلف مجالات البحوث العلمية التي بها تتطوّر الأمم وتبنى. لذلك ومن أجل تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة لا بدّ من أن يكون ذلك متلازماً مع البحث العلمي والتطوير.
وفي خضمّ العمل الحالي للحكومة اللبنانية على تأمين المساعدات الخارجية المالية والاقتصادية والإنمائية الضرورية للحؤول دون انهيار لبنان، ينبغي على هذه الحكومة في الوقت عينه تأمين المساعدات اللازمة من أجل تطوير البحث العلمي في لبنان عبر إنشاء البنى التحتية الضرورية والتجهيزات اللازمة لإنشاء مراكز أبحاث ومنصات ومختبرات بحثية وتأمين الكوادر التقنية والمهنية من أجل استدامة الأعمال البحثية في هذه المراكز والوحدات البحثية المنتجة، تقوم بعملية دفع تسارعي للإنتاجية الاقتصادية في لبنان.
إنّ نسبة الإنفاق على الأبحاث في الدول العربية منخفضة جداً، وقد بيّنت دراسة أعدّتها الأمم المتحدة أنّ مبلغ الإنفاق العام عام 1990 على البحث والتطوير في الدول النامية ومن بينها الدول العربية محسوباً على أساس الفرد الواحد يقلّ بحوالي 400 مرة عنه في الدول المتقدمة.
وعندما نرجع إلى مصادر تمويل البحث العلمي والتطوير نجد أنه يعتمد في الدول العربية اعتماداً كلياً على ما تخصّصه الدولة لهذا الغرض، والذي لا يُصرف على وجهه الصحيح في كثير من الأحيان، أما في الدول المتقدّمة فإننا نجد أنّ البحث والتطوير له مصادر تمويل عديدة، ففي الدول الغربية مثلاً تشترك كلّ من الدولة ومؤسسات القطاع الصناعي والمالي والجامعات والمؤسسات التعليمية الأخرى ومراكز الأبحاث ذات الموارد المستقلة من الدولة، وكذلك البنوك والقطاعات الرأسمالية الأخرى، كلّ هؤلاء يشتركون في تمويل البحث العلمي، ناهيك عن الهبات والتبرّعات والأوقاف التي يقدّمها الأثرياء ورجال المال والأعمال والجمعيات الخيرية لهذا الغرض. لذلك فإنّ التقدّم في تلك الدول يُعزى لهذا الإنفاق السخي على البحث العلمي والتطوير اللذين يُعتبران الركيزة الأساس لكلّ مستجدّ ولكلّ اختراع يُحدث نقلة نوعية لها انعكاساتها على اقتصاديات ورفاهية إنسان تلك الدول.
من ذلك كله نستطيع أن نقول إنه إذا أردنا تحقيق تنمية مستدامة اقتصادية واجتماعية لمجتمعنا وأن يصبح معدل النمو لدينا منافساً للمعدلات العالمية فإنه ينبغي تخصيص نسبة لا تقلّ عن 2٪ من الناتج القومي الإجمالي لصالح البحث العلمي والتطوير في وطننا، مما يعني إنشاء مراكز بحثية ذات مستوى عالمي ودعمها بالتجهيزات اللازمة من أجل المساهمة في تطوير إنتاجنا واقتصادنا.
ولتطوير البحث العلمي في وطننا من المهمّ التأكيد على تطبيق مفهوم إستقلالية المؤسسات البحثية وإعادة إنشاء وتوجيه نظام التعليم الجامعي نحو الأبحاث والإبداع وعلى أساس الكفاءة وزيادة واستقرار مصادر التمويل ومنع التدخل السياسي في شؤون المؤسسات البحثية والجامعية وإنشاء شراكة بين مراكز الأبحاث والجامعات مع القطاعات الزراعية والصناعية والطبية والتنمية المستمرة لقدرات الباحثين.
لذلك كله أتوجه بهذا المقترح إلى المسؤولين القيِّمين الذين يهمّهم أمر الإنتاج الوطني في الصناعة والزراعة والمرتكز على فعالية واستمرار البحوث العلمية في وطننا الحبيب كي يصبح بالفعل منارة بحثية للإنتاج والإبداع عبر خطة عمل واستراتيجة متكاملة على مستوى الوطن تتمحور حول إنشاء المراكز والوحدات البحثية التالية:
1 ـ مراكز ووحدات بحثية مستقلة.
2 ـ مراكز ووحدات الخدمات البحثية.
3 ـ مراكز ووحدات بحثية مشتركة بإدارة مؤسسات جامعية أو صناعية.
تضمَّ تلك المراكز والوحدات ضمن المخطط المقترح مختلف الموظفين من باحثين ومهندسين فنيين وإداريين ضمن هيكلية موازية لتلك الموجودة في مراكز الأبحاث العالمية والتي تقسم الباحثين فيها إلى فئتين باحثين ومدراء أبحاث.
ولإنجاز هذه المهامّ، يجب على الحكومة ومؤسسات البحث العلمي في لبنان القيام بما يلي:
1 ـ إنشاء شبكة من الباحثين النخب على مستوى الوطن تقوم على تصويب مسار البحث العلمي لمواجهة التحديات المستجدة ولمواكبة التغييرات الكبرى.
2 ـ إنشاء مراكز أبحاث ووحدات بحثية وإدارتها ودعمها.
3 ـ إنشاء مجلات علمية عالمية محكَّمة ذات معدل تراكمي مرتفع.
4 ـ تنفيذ برامج البحث والتطوير التكنولوجي وفقاً للأولويات التي تفرضها حاجات الوطن.
5 ـ تمويل عملية الأبحاث العلمية عن طريق الشراكة بين مختلف وزارات الصناعة والزراعة والبيئة والمياه والطاقة والاقتصاد والصحة وكافة المؤسسات العامة والخاصة مع مراكز الأبحاث والوحدات البحثية.
6 ـ العمل على إيجاد الدعم والتمويل لإنشاء مراكز أبحاث في مختلف مناطق لبنان ومحافظاته ومراعاة الإنماء المناطقي.
ومن أجل إنماء مناطقي متوازن يجب إنشاء مراكز أبحاث علمية ومختبرات ذات مستوى عالمي في كافة المحافظات اللبنانية تعنى في تطوير الإنتاج الصناعي والزراعي والطبي والتكنولوجي تتمحور حول علوم الهندسة النفطية والغاز والجيولوجيا والمعلوماتية والروبوتيك والمواد والنانوتكنولوجيا والصناعة والتكنولوجية والعلوم الطبية والعلوم الزراعية والبيطرية والطاقة المتجددة والعلوم الكيميائية والبيوتكنولوجية والعلوم البيئية والمائية والسدود والعلوم الهندسية والهندسة الطبية وعلوم الصحة والصناعات الغذائية.
*رئيسة مختبر الأبحاث للدراسات التطبيقية حول التنمية المُستدامة والطاقة المُتجددة وأستاذة باحثة في الجامعة اللبنانية