الإنتاج المحلي في مواجهة تصاعد سعر الصرف والوزارات المعنية تكتفي بالدعم المعنوي
المزارعون يراكمون خسائرهم وتجار الأزمة يضاعفون أرباحهم على حساب أصحاب المصالح الصغيرة
تحقيق ـ عبير حمدان
يسيطر المنطق الاستهلاكي على المواطن في لبنان الذي اعتاد على الخمول والابتعاد عن مفهوم الإنتاج جراء اعتماد ثقافة «الاستيراد» التي قضت على أيّ أمل بأن تقوم للإنتاج المحلي قائمة.
قرار وضع ضريبة على «الواتساب» حرّك الشارع الذي بدأ بمطالب معيشية محقة ومن ثم تحوّل إلى مادة لنشر الخراب وفق حسابات داخلية وخارجية، والأزمة الصحية التي فرضت الإغلاق والحجر الإلزامي كلها عوامل ساهمت في تسريع وتيرة الانهيار الاقتصادي المترافق مع استغلال موصوف من قبل كبار التجار الذين يضاعفون ثرواتهم على حساب أصحاب المصالح الصغيرة والمستهلك في آن.
الواقع يزداد سوداوية في مختلف القطاعات ولا يبدو انّ هناك أفقاً قريباً للنفق المظلم في ظلّ غياب القدرة الشرائية للمواطن حتى للضروريات، ومن الصعب التعويل على إمكانية الاكتفاء الذاتي إذا ما عدنا إلى الزراعة أو الصناعة المحلية حيث أنّ النهوض بهذين القطاعين يحتاج إلى خطوات جدية من قبل الجهات الرسمية المعنية لدعم أيّ مبادرة والعمل على حماية المزارعين والصناعيين من سطوة الاحتكار الذي يبرع فيه تجار الأزمات.
القطاع الصناعي وإشكالية تأمين المواد الأولية
لدى حسين الموسوي ترخيص من وزارة الاقتصاد بتركيب المنظفات والمعقمات وسائل الغسيل، ويشدّد على أنّ الصناعة المحلية قادرة على المنافسة شرط أن يتمّ دعمها من قبل الدولة، إلا أنّ المشكلة التي تواجه الصناعيين اليوم هي استيراد المواد الأولية، وحسب تعبيره «من يسيطر على السوق هم التجار المستوردون ويُضاف الى احتكارهم تراجع قيمة العملة الوطنية في مواجهة ارتفاع سعر صرف الدولار».
ويجهد حسين كي يستكمل كافة المعاملات القانونية لتأسيس مصنعه وهو الذي تقدّم بطلب ترخيص من وزارة الصناعة إلا أنّ الروتين الإداري في دوائر الدولة يعيق حركته، ويختصر الواقع بالقول: «لو أرادت الدولة تسهيل أمور أصحاب المصانع الصغيرة لفعلت ولكن لا يوجد نية لدعم الإنتاج الوطني على حساب الاستيراد».
وتبقى المشكلة في كيفية تأمين المواد الأولية التي تضاعفت تكلفتها، فمثلاً قنينة البلاستيك ارتفع سعرها من 600 ليرة إلى 1150 ليرة، والغالون الذي كان سعره 1200 ليرة أصبح بـ 2500 ليرة إلى آخره من المواد التي يحتاجها كلّ من يعمل في هذا القطاع، ولا يملك صغار الصناعيين إلا الوعد من وزارة الاقتصاد بالحصول على حسم يجنبهم سيطرة تجار الأزمات.
سياسة جدية شاملة لدعم قطاعي الزراعة والصناعة
يملك أحمد شحادة ترخيصاً بمعمله من وزارة الصناعة وهو ضمن تجمع صناعي لأكثر من معمل ينتج الألبان والأجبان بجودة عالية ولكن يبقى الدعم من الدولة هو المطلب الأساسي، ويقول: «المادة الأولية للمعمل هي الحليب الطبيعي الذي يتمّ شراءه من أصحاب مزارع المواشي، والبلاستيك الذي يتمّ استيراد مواده الخام، وأيضاً الحليب المجفف المستورد، وكما تعلمين فإنّ كل مادة يتمّ استيرادها تضاعف سعرها مع ارتفاع سعر صرف الدولار مما أثر على القطاع بشكل سلبي، نحن ننتج سلعاً غذائية بجودة عالية ولدينا ماركات مسجلة في وزارة الإقتصاد (ليبان لاند LibanLabnd وسنتر بدنايل Center Bednayel ) ولكن كما هو معلوم يلعب الإعلان دوراً كبيراً في كيفية ترويج أيّ منتج».
ويشير شحادة إلى أهمية تخفيف الكلفة أيّ الأعباء الصناعية مثل الأكياس المختومة والمطبوع عليها والعلب البلاستيكية بهدف التوفير على المستهلك، لافتاً إلى أنّ الدعم الجدي للقطاع الصناعي والزراعي المرتبطين ببعضهما البعض بشكل فعلي يجب أن يقوم على أساس دراسة فعلية لطبيعة كلّ منطقة، حيث أنّ دور الدولة يكون بدعم الأعلاف لأصحاب المزارع كي تستمرّ عجلة الإنتاج بشكل مقبول وحين يتوفر العلف للمواشي بسعر مدعوم يبقى سعر الحليب في مستوى يتلاءم مع المقدرة الشرائية للمصانع وتلقائياً يؤثر ذلك على المستهلك.
إلى جانب مصنع الألبان والأجبان بدأ شحادة مشروعه الثاني الهادف إلى مساعدة المزارعين وتحت عنوان «واحة الأمل» عمد إلى حماية موسم الورد من خلال دعوة الناس الى تقطيره في المعمل المستحدث، ويقول: «المبادرة الفردية التي قمت بها هدفها تحفيز المزارع على الاستفادة من موسمه والعمل على تسويقه لاحقاً، وهذا العام هو بمثابة خطوة أولى، وفي الأعوام المقبلة يمكن ان نعمل على تصنيع كلّ ما تنتجه الأرض من خيرات زراعية، سواء المربيات والمقطرات والمخللات».
ويختم شحادة: «الوزراء المعنيون تحدّثوا عن أهمية دعم القطاعين الزراعي والصناعي، ولكن يبقى القرار رهن سياسة شاملة للحكومة مجتمعة للموافقة على جدية تفعيل هذين القطاعين ودعمهما كما هو مفروض».
غياب تام للروزنامة الزراعية والخسائر تتراكم موسمياً
لعلّ التوصيف الأكثر دقة هو «واقع القطاع الزراعي في بعلبك الهرمل مزر» بحسب تعبير معظم المزارعين في منطقة غربي بعلبك»
وحول مقدرة القطاع على النهوض بالمنطقة اقتصادياً يقول عبدو حمية: «يمكن للقطاع الزراعي في بعلبك الهرمل أن يؤمّن الاكتفاء محلياً في حال لم يتمّ تصدير المنتوج الى الخارج، وما نزرعه من بطاطا وقمح وشعير وبصل وكافة الخضار يكفي للسوق المحلي طالما لا يزال طريق التصدير متوقفاً، في مقابل ذلك تمّ إيقاف زراعة الشمندر السكري وأغلق معمل السكر رغم أنّ زراعته مربحة ومردودها جيد دون التغاضي عن تلوث مياه الريّ حيث أنّ الشمندر يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه».
ويلفت حمية إلى أنّ موسم الدخان جيد نسبياً ولكن في ظلّ غياب الروزنامة الزراعية يتمّ منح التراخيص بطريقة استنسابية.
وفي هذا الخصوص يشرح حمية كيفية توزيع «رخصة» زراعة الدخان على المزارعين، فيقول: «الدولة تمنح ترخيص زراعة الدخان للموظفين في القطاع العام وهؤلاء بدورهم يعمدون إلى تأجيرها للمزارع الذي يجب أن يكون صاحب الحق في الحصول عليها، أنا مزارع ليس لديّ «رخصة» رغم أني امتلك الأرض».
ويستفيض حمية في شكواه فيقول: «لا يوجد أيّ شيء ملموس على الأرض، كيف يمكن لنا أن نزرع ونستثمر أراضينا ونحن نشتري المواد الأولية والأسمدة اليوم على حساب السوق السوداء، وحين نبيع يُحتسب المحصول على أساس السعر الرسمي وأحياناً أقلّ بكثير، نحن نشتري بالدولار ونبيع بالعملة اللبنانية، في النهاية الخسارة حاصلة».
ويضيف: «معاناة المزارعين كبيرة في هذه المنطقة، مثلاً على سبيل المثال كان سعر أدوية «الرش» في الصيدلية الزراعية عشرة آلاف ليرة واليوم أصبح مليون ليرة للخزان الواحد».
ويقول حمية: «ليس هناك أيّ دعم فعلي وجدي للمزارعين ولا حتى في مجال تصريف منتوجهم».
لكلّ منتوج مافياته من المحتكرين فهم يحددون السعر للمزارع حين يشتري البذور ولاحقاً حين يبيع المحصول، ويقول حمية: «البطاطا التي تستعمل في معامل «الشيبس» تختلف عن غيرها من أصناف البطاطا واسمها «اغريا» وهذه المعامل هي من يحدّد سعر البيع والشراء، أنا مزارع وإذا أردت شراء البذور من أصحاب المعامل يجب أن أشتري منه وبسعر مرتفع وحين أبيع المحصول ممنوع عليّ بيعه لسواه وقد يشتريه مني بأرخص الأسعار، أيّ انّ المزارع ملزم بإبرام إتفاق مسبق مع أصحاب هذه المعامل، وإنْ لم يفعل ذلك فهو حكماً بحاجة إلى وسيط كي يبيع محصوله لهم وفق تسعيرتهم».
ويبقى السؤال معلقاً حول الاستنسابية في تصريف المواسم على مستوى المناطق كافة في لبنان، حيث أنّ الحمضيات بيعت بأسعار خيالية وبلغ سعر كيلو الحامض 4000 ليرة لبنانية، والمواسم الشتوية في البقاع لا يسدّ مردودها كلفة زراعتها، وحين يذهب المزارع الى الحسبة لبيع الخضار مثل «الخيار» يكون السعر في مستواه الأدنى، ولائحة المعاناة تطول بانتظار التغيير المرجو في آلية الدعم.
الزراعة قطاع منتج اقتصادياً… ولكن
من جهته يؤكد حاتم الحاج حسن أنّ القطاع الزراعي قادر على النهوض بالاقتصاد إذا ما تمّ تفعيله جدياً من قبل الوزارات المعنية، ويقول: «إذا أردنا أن نجري مقاربة واقعية لماذا لا ننظر إلى سورية كدولة تمكّنت من تحقيق الاكتفاء الذاتي وحمت صناعتها وقطاعها الزراعي لتؤسّس لمجتمع منتج، نحن لا ننفصل عن سورية جغرافياً وثقافياً ويمكننا ان نتصرف على النحو نفسه حين يتعلق الأمر بأمننا الغذائي، لذلك على المعنيين الاهتمام بالقطاع الزراعي والعمل على دعمه بشكل واقعي وليس من خلال الخطابات والبيانات والنوايا الاستعراضية».
ويضيف: «قبيل الارتفاع المتصاعد لسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية كانت خيمة الخيار او البندور تكلف حوالي 750 ألف ليرة لبنانية من ألفها إلى يائها سواء الأسمدة والأدوية والريّ والقطاف، اليوم أصبحت التكلفة مليون ونصف المليون ومرشحة للارتفاع، وفي المقابل تصريف الإنتاج معدوم بحيث يتمّ بيع كيلو الخيار او البندورة بأقلّ من ألف ليرة وبعدها يصل الى المستهلك بسعر مضاعف ومضروب بثلاثة أضعاف أحياناً، مما يعني أنّ الخسارة تبدأ مع المزارع وتنتهي مع المستهلك ومن يحقق الربح هم التجار».
ويختم: «المطلوب من الدولة دعم القطاع الزراعي وتوفير المواد الأولية بعيداً عن تجار الأزمة، والعمل على تصريف المنتوجات بشكل ينصف المزارع ليتمكّن من الاستمرار على مدار المواسم، مع الإشارة إلى أننا نمتلك مقدرة الاستغناء عن استيراد الأسمدة ولكن وفق خطة فعلية بحيث يكون السماد طبيعياً ومحلياً».
من جهته يؤكد خالد عبدو انّ «القطاع الزراعي من أهمّ القطاعات المنتجة إذا ما تمّ تنظيمه ودعمه بشكل جدي من قبل الجهات المعنية».
ويضيف: «منطقة بعلبك الهرمل مغيّبة عن الخارطة الزراعية بالكامل، اليوم على سبيل المثال لا الحصر لا يمكننا الاستمرار في ريّ المزروعات في ظلّ عدم توفر المازوت للمولدات، وفي حال وجدنا هذه المادة فهي تُباع في السوق السوداء بثلاثين ألف ليرة للعشرين ليتر، مع العلم أنّ السعر الرسمي هو 16000 ألف ليرة».
وعن موضوع توفير الأسمدة والبذور للمزارعين قال: «الأسمدة تضاعفت أسعارها والبذور كذلك، أنا أملك صيدلية زراعية ولكن ما ترينه اليوم من أدوية فيها هو قبل موجة الغلاء وقد لا أتمكن من شراء المزيد وفق سعر صرف الدولار اليوم».
وختم عبدو: «اليوم أعدت محصول الخيار لأنّ التجار دفعوا 500 ليرة سعراً للكيلو ولا أنوي بيعه بهذا السعر مطلقاً».
بحاجة إلى خطة زراعية
أمّا عباس الترشيشي فلفت إلى أنه «لا نتمكّن من استيراد البطاطا مع ارتفاع سعر صرف الدولار، وقال: «لو كان هناك سياسة زراعية حقيقية وفاعلة لا لزوم لاستيراد هذا المنتوج الذي يكفي السوق المحلية ويزيد لتصديره الى الدول المجاورة بما يقارب 150 ألف طن جراء تعاقب المواسم حيث أنّ أول موسم يبدأ في بداية شهر نيسان في عكار وينتهي في منتصف شهر حزيران، ويليه الموسم الثاني في منطقة البقاع ايّ من منتصف حزيران حتى أواخر شهر آب وبعدها يبدأ الموسم الثالث في أواخر شهر تشرين الأول حتى نهاية تشرين الثاني ومحصول هذا الموسم يكون «للمونة»، ولكن للأسف في ظلّ غياب الآلية لا يوجد تنظيم للقطاع بشكل ينصف المزارع والمستهلك على حدّ سواء».
أما في ما يتصل بما يتمّ تداوله بين المزارعين عن احتكار زراعة البطاطا المخصّصة لمعامل «الشيبس» من قبل أصحاب هذه المعامل، يقول ترشيشي: «لا يوجد أيّ احتكار في هذا الإطار على الإطلاق، وسأوضح الأمر بشكل مفصّل كي نزيل الالتباس الحاصل حوله، مع العلم أني لا أملك معملاً لهذه الصناعة، هناك نوعيات من البطاطا الصناعية وفق طبيعة كلّ معمل وهي ليست صنفاً واحداً للجميع، لذلك يتمّ استيراد البذور من الخارج ويتوجه صاحب المعمل الى المزارعين طالباً منهم زراعتها فيعطيهم البذور ويأخذ منهم المحصول والآن يتمّ بيع طن البطاطا الصناعية ب280 دولار وطبعاً وفق سعر الصرف الحالي فيما البطاطا العادية تُباع بأقلّ من ذلك، بمعنى أكثر دقة كيلو البطاطا الصناعية سعره 2000 ليرة مقابل 1000 ليرة سعر كيلو البطاطا العادية».
ويتابع في نفس الإطار: «هناك عقد يتمّ إبرامه بين المزارع وصاحب المعمل، والفكر الزراعي متطوّر بشكل كبير في لبنان، لذلك يتضمّن العقد كافة الشروط التي تنصف الطرفين إنْ لجهة السعر وكيفية توضيب المنتوج وليس كما يحاول البعض الترويج لفكرة انّ هناك احتكاراً لهذا القطاع، أنا أتعاون مع مجموعة من المزارعين في منطقة طليا وسهل طاريا والنبي رشادة وفي عمّيق وغيرها من الأراضي حين أزوّد المزارعين بالبذور واخذ منهم المحصول فكيف يمكن أن أحتكر هذه الزراعة في ظلّ هذا التبادل والتعاون».
ويختم بالقول: «الكارثة الاقتصادية أرخت بثقلها على القطاع الزراعي ومهما حاول المزارع الخروج من أزمته لن يجد سبيلاً إلى ذلك إلا عبر خطة زراعية ودعم جدي».