دور الاعلام في حرب تموز 2006
} البروفسور كميل حبيب*
يعتبر انتصار تموز عام 2006 انتصاراً استثنائياً في مفهوم الحروب غير التقليدية، حيث المقاومة تنتصر على دولة. والانتصار لا يزال خاماً، بمعنى أنه لم يتمّ استثماره كما يجب.
أظهرت المقاومة انها تقاتل بمبادئها وسلاحها، بمعنى صراحة الالتزام وإيمان الانتماء، ونهائية العداء للكيان الصهيوني، وخارج أيّ مساومة أو لعب بالسياسة تحت الطاولة أو فوقها.
انتصار تموز كان يجب ان يستثمره لبنان الرسمي، والعرب على حدّ سواء، لأنه ليس حدثاً عادياً، بل هو يوم من أيام العرب الكبرى. وليس ما يمنع اليوم أن يكون للبنان محطات وطنية يستذكر فيها من استشهد ليبقى لبنان، ولتتحرّر أرضه، ويُستعاد استقلاله المخطوف من الداخل والخارج.
انتصار تموز، انتصار يستحق ان يُدرَس ويُدرّس من ضمن مناهج الاستراتيجية العسكرية. أدخل مصطلحات جديدة على قاموس الخطاب المقاوم والخطاب السياسي، وهذا ما يجب ان تبنى عليه دراسات حول دور الإعلام إبان النزاعات والحروب.
إذ كان الانتصار في أية حرب يتطلب جهوزية، وخططاً، ووضوح ودقة في تحديد الهدف، فإنّ للإعلام دوراً رئيساً في تحقيق النصف الآخر من الانتصار. إنها الحرب النفسية التي تفعل فعلها في زعزعة ثقة جيش العدو بقدراته، وفي خلق السجالات داخل مجتمعه، أيّ في جبهته الداخلية وعلى صعيدي الحكم والمجتمع معاً عبر طرح التساؤل حول الفعالية المرتجاة من الحرب. وفيما كان سماحة السيد حسن نصرالله يوجه عبر جريدة «السفير» (24/7/2006) الشكر لشعب لبنان الوفي، كان المستوطنون الصهاينة في نفس اليوم يسألون حكومتهم عن جدوى الاستقرار في الحرب على لبنان. إنهما مشهدان إعلاميان يعبّران بالمختصر المفيد عن أهمية دور الإعلام في تحقيق الانتصار.
ففي أوقات الحروب تتداخل خيوط الإعلام مع الدعاية ومع الحرب النفسية. والحرب بدون إعلام ليست حرباً، حتى من قبل أن تبدأ. فالإعلام أداة من الأدوات التي يستخدمها أطراف القتال بقوة، في التضليل والدعاية والتعتيم والخطابات والمقابلات التلفزيونية. وهذا يعكس مقولة ونستون تشرشل: «في وقت الحرب تكون الحقيقة ثمينة جداً… « ففي الذكرى السنوية لإعتقال الشهيد سمير القنطار، توعّد سماحة السيد حسن نصرالله بتحرير القنطار، والأسرى اللبنانيين من السجون الاسرائيلية. ويكون السيّد بذلك قد رسم الدليل القاطع على أنّ مواجهة ما ستدور في الأفق… وكان وعداً صادقاً.
أما عن الإدارة الإعلامية للحرب، فأدار حزب الله حرب «الوعد الصادق» على مسارين متداخلين: مسار عسكري على الأرض، وآخر فضائي وأرضي عبر وسائل الإعلام المتنوعة. ففي موازاة المواجهة العسكرية البطولية، دارت مواجهة من نوع آخر لا تقلّ حدة واهمية: العبوة فيها شريط فيديو، والكمين فخ إعلامي، والبندقية كاميرا لا تخطئ. ويمكن تسمية هذه التقنيات بالكاتيوشا الإعلامية الموجهة الى العمق «الإسرائيلي»، حيث الخطوط الخلفية للاحتلال، والتي اهتزت على وقع الصوت والصورة. ومن أبرز مطلقي هذه الكاتيوشا هم مصوّرو العمليات الذين تربطهم بالكاميرا علاقة حميمة. فهي، أي الكاميرا، ليست آلة، بل شريكة في الجهاد.
هكذا يكون حزب الله قد رسم معادلة جديدة عن طبيعة المواجهة بين تموز والتنين. مثال على ذلك، أثار الفيلم الخاص عن عملية اقتحام تلة الدبشة نقاشاً وذعراً في الأوساط السياسية والعسكرية الإسرائيلية، بعدما كذبت كاميرا المقاومة زعم «إسرائيل» بأنّ المقاومين لم يصلوا الى الموقع المذكور. أخيراً، انّ وظيفة كاميرا المقاومة لا تنحصر في الشهادة على الانتصارات وفضح أكاذيب العدو وبالدليل الحي. فمن خلال لقاءاتي مع عدد من الإعلاميين المجاهدين تبيّن لي انّ عدسة المقاومة هي وسيلة فعالة لإعادة تقييم اداء المقاومين بعد كلّ عملية مصوّرة.
وفي ما يتعلق بالتقنيات الإعلامية، فقد وظّف حزب الله تقنيات إعلامية حديثة امتازت بدقتها وسرعتها وسعة انتشارها. وكان هدف الحزب من وراء ذلك إحداث انقسام بين «الاسرائيليين». ولقد أشارت الى ذلك لجنة فينوغراد عندما نسبت الهزيمة (الإخفاق) إلى تردّد القيادة السياسية في اتخاذ القرار. أما الهدف الثاني فيعود إلى إبقاء الجمهور اللبناني في حال انشداد ودعم للمجهودات الحربية. وللحزب وسائل إعلامية مختلفة مجهّزة بأحدث التقنيات، منها: المواقع الالكترونية، صحيفة أسبوعية تحمل اسم الانتقاد، اذاعة النور، وقناة المنار. وهذه الأخيرة ربما تبقى من القنوات التلفزيونية القليلة التي ترفض التطبيع مع «إسرائيل». وتجدر الإشارة إلى انه تجري على مدار الساعة حرب سيبرانية بين المقاومة والعدو الصهيوني.
سماحة السيد… الإعلامي الأول
كسب حزب الله المعركة أيضاً بفضل صدق ومصداقية أمينه العام السيد حسن نصرالله، وبفضل قوة الحق التي يمتلكها. تسلّح الأمين العام بالشجاعة والصبر والحكمة والارادة الصلبة. فاوض الاسرائيليين من على شاشة «المنار»، واضعاً شروطه بكلّ وضوح: «لن يعود الأسيران الا بالتفاوض غير المباشر والتبادل». كما انّ سماحته دعا وسائل الإعلام الى ان «تتصرّف بمسؤولية والا تخدم بإعلامها العدو، بإشاعة مناخ من الإرهاب والتخويف والإحباط خدمة لإسرائيل». واعتقد انّ يوم الجمعة في 14 تموز 2006 كان يوماً مفصليّاً في مسار الحرب، عندما أطلّ الأمين العام عبر قناة «المنار» مبدّداً الشكّ في أمر إصابته، وليعلن عن تدمير البارجة «الإسرائيلية» «ساعر 5» أمام شواطئ بيروت: انظروا اليها انها تحترق وعليها عشرات الجنود الصهاينة». كما انه بحكمته وبصيرته استدرج الاسرائيليين الى المنازلة الميدانية لينهزموا على يد رجال الله في الميدان.
كلام السيّد ضاهى بقوته الصواريخ التي قضت على مقولة «الجيش الاسرائيلي الذي لا يُقهر».
وبالنسبة لسماحته، النصر هو «ان تبقى المقاومة حية، وعندما لا تنكسر إرادتها، يكون النصر، وعندما لا تنهزم عسكريّاً يكون النصر».
وعلى الرغم من المآسي والحصار والمجازر، صمد حزب الله ومعه شعب لبنان. لقد كان السيّد محقاً في وصف انتصار الوعد الصادق «بنصر إلهي تاريخي استراتيجي كبير». ففي عرض البحر دمّرت المقاومة البارجة الحربية الاسرائيلية، وفي مشهد تلفزيوني مثير؛ وجعلت الميركافا أضحوكة في نظر الخبراء العسكريين؛ وثبّتت مبدأ الردع المتبادل ومعادلة تل أبيب مقابل بيروت.
خلاصة القول، انّ الحرب الاسرائيلية على لبنان جلبت على الكيان الصهيوني هزائم نصوغها على النحو التالي:
زعزعة ثقة الاسرائيليين بقدرة جيشهم على حمايتهم. فشل سلاح الجو في حسم المعركة. فشل استخباري في تقدير قوة المقاومة العسكرية والإعلامية، وصلابة إرادة الجماهير.
بالعودة الى الداخل اللبناني، فإنّ سماحة السيّد رفض الدخول في أيّ سجال مع أحد خلال الحرب.
قالوا: اننا خسرنا الحرب، لأنّ خسائر لبنان المادية والبشرية فاقت تلك الاسرائيلية.
قلنا: غاب عن بالكم انّ النصر والهزيمة في اية حرب يقاسان بحسب تحقيق او عدم تحقيق الأهداف المعلنة من الحرب.
قالوا: ماذا سيفعل سماحة الأمين العام بهذا الانتصار، على أساس انّ من يحرر الأرض يتسلّم الحكم.
وقلنا: سيكون الانتصار لكلّ لبنان، وطوائفه، ومناطقه، ومؤسساته.
قالوا: سقط لحزب الله عدد من القتلى.
وقلنا: انهم شهداء… ومنا من ينتظر، ولن نبدّل تبديلا.
قالوا: انها الحرب الاسرائيلية على لبنان، او الحرب اللبنانية الاسرائيلية.
قلنا: انها حرب الوعد الصادق.
من جهته، اعتمد الإعلام العربي مصطلحات خبيثة: «إنّ الحرب جاءت كنتيجة كردة فعل على عمليات حزب الله على إسرائيل، والضحايا الاسرائيليين»، و«بأننا مغامرون». إعلام السلطة في مصر كان الأكثر طرافة إذ اعتبر انّ طرفي الحرب خاسران.
كما انّ بعض الإعلام استحضر كلمات للسيد في إحدى المقابلات التلفزيونية، «لو كنت اعلم»، وغاب عن بالهم انّ تلك الحرب لم تكن نتيجة لردة الفعل، بل انّ تل ابيب فضلت توظيف أزمة أسر الجنديين لتنفيذ خطة الحرب المرسومة سلفاً في واشنطن لتغيير قواعد اللعبة في لبنان والمنطقة. وهذا ما قصدته وزيرة الخارجية الأميركية، كونداليزا رايس، عندما تحدثت عن «شرق أوسط جديد يولد من رحم الأزمة»؛ وهو شرق أوسط خال من اية مقاومة. وما كان يعلمه السيد هو انّ عملية الوعد الصادق جاءت مشابهة لعملية سابقة قامت بها حركة حماس في 25 حزيران 2006، اذ تمّ اختطاف جندي اسرائيلي. وعلى الأثر، قدمت حركة حماس لـ «إسرائيل» عرضاً لصفقة تبادل بين الجندي الاسرائيلي وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين. ورأى حزب الله اغتنام الفرصة لتنفيذ عملية مشابهة، لأنّ تل ابيب لا تستطيع المواجهة على جبهتين في وقت واحد. بعد ذاك، ربط السيّد الحادثتين علانية بتصريح قال فيه: «انه يستطيع إجراء مفاوضات مشتركة حول الجنود الأسرى جميعهم».
في الختام، التحرير لم يكن لإقتسام السلطة او لتقوية موقع المقاومة في بنية دولة، أقل ما يُقال فيها، إنها مهترئة وعاجزة. كان التحرير من أجل دحر الاحتلال واستعادة السيادة. جدوى المقاومة انها حرّرت جنوب لبنان، وفرضت معادلة الردع على العدو الصهيوني.
اليوم يريدون المقاومة سياسية فقط. وفي السياسة يريدونها مقاومة منزهة عن السياسة. في رأيي، المطلوب من قوى الاستكبار العالمي هو ان تخرج المقاومة من المقاومة والسياسة معاً.
نعم، لا تزال «إسرائيل» تستطيع ان تقصف، ان تؤذي، ان تخرّب، لكن لم يعد باستطاعتها ان تنتصر. الانتصار ملك لنا؛ اما الآخرون الذين ينتظرون سقوطنا، فهم سوف يحتاجون لحمايتنا يوماً ما…
*عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية