أم جاد
} زياد كاج*
السهر والساهرون أشكال وأنواع: من الناس مَن يسهر على حدود والإصبع على الزناد، ومنهم مَن يسهر أمام الشاشات والأجهزة في المحطات لضمان سلامة الناس واستمرار الحياة، ومنهم مَن يمضي الليل أمام شاشة الكومبيوتر أو مع صفحات كتاب، ومنهم من يناكد نجوم السماء وسط صخب الموسيقى والرقص والموائد العامرة، ومنهم العشاق يحرقون شموع الليل فداءً للحب. الساهرون متعدّدو المشارب والغايات.. إلا الممرضات والممرضين.. فسهرهم هو على مرضى وآلام وطنين آلات الإنعاش.. أو في أقسام الطوارئ لاستقبال مرضى الليل وجرحى حوادث السير والإشكالات الأمنيّة.
سهر هذه الفئة الاجتماعية يبقى في العتمة ولا يكتشفه المجتمع إلا عند الحاجة.
كنتُ يوماً من هؤلاء وكانت هي: جمعنا السهر المُتعب والمُضني من أجل عيش كريم وبناء مستقبل وتأسيس أسرة.
في الطابق السادس شمالي المخصص للأطفال في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت تعارفنا كزميلين، وعبرنا بيسر الى الصداقة. هي من أصول بعلبكية وأنا من رأس بيروت. كنت اُمازحها: «أنتم من مدينة الشمس؛ ونحن اشتكينا عليها».
عملنا سوياً خلال الدوام المسائي وفي ظروف صعبة كان يمرّ بها البلد ومعه المستشفى. لفتني حبها وتفانيها في مهنة التمريض. الكل كان يحبها ويستلطفها من الزميلات الى المرضى والأطباء. وأنا كنت أجلس خلف مكتب الممرضات أتابع عملي «شبه الإداري» وأراقب المشهد أمامي وهي جزء أساسيّ منه.
خلال جلساتنا المسائية، وبعد إتمام كامل الواجبات اليومية ونوم معظم المرضى واسترخاء أهلهم وتوقف طلباتهم، كانت تعدّ أكواب الشاي بالقرفة، فتكون جلسة دردشة ويتمدّد حبل الحديث.
كانت تكتب عني إحدى مهامي الورقية الكثيرة لليوم الثاني. كنا نسمّيها «لائحة الطعام» التي تتضمّن أسماء المرضى وأرقام غرفهم ونوع الطعام المسموح تناوله حسب وصفة الطبيب. خطّها كان جميلاً كنفسيّتها الطيبة. زادت أطماعي، فصرت أطلب منها أن تكتب بخطها اللائحة الثانية بأسماء المرضى. لاحقنا كتب لنا شيخ «ورقة» جعلت حبّنا شرعياً أمام أعين الناس.
مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت جمعتنا معاً، فدخلنا «قفص الزواج» بعد خطوبة جميلة خالية من المسؤولية ومليئة بشمّ الحبق. شهر عرسنا اختزلناه في 3 أيام في دمشق القريبة أكثر من غيرها لبيروت. كانت رحلة مميّزة — خاصة بالنسبة لها — لأنها كانت المرة الأولى التي تخرج فيها من البلد الصغير. زرنا أسواق دمشق وسوق الحميدية والجامع وسوق البزورية وباب توما وسوق المهن اليدوية والسيدة زينب، حيث رأيتها لأول مرة تخرج باكية من القسم المخصص للنساء.
في الحميدية سمعت أجمل عبارة ساخرة من شيخ ضرير يتحدّث مع صديقه: «تضرب شنك عاطفيّ». طربت اُذني لسيمفونية أصوات سمعتها لأول مرة في ذاك السوق.
في المستشفى كانت لنا صولات وجولات وخبرات ومواجهات بعضها حلو وبعضها مرّ. كان في جيوبنا فقط مدخولي ومدخولها. وكانت لنا زمالات وصداقات مع ممرضين وممرضات وأطباء تركوا فينا أثراً طيباً. عملنا مع ممرضات مثاليات، ومع من اتخذ المهنة لكسب العيش، وأخريات أتين لاصطياد الزوج – الطبيب. ممرضة واحدة عملت معنا وهي لا تزال تلميذة اسمها ليلى حيدر من الكورة الحبيبة، سأعود إليها لاحقاً. كان لنا شرف العمل الى جانب أطباء كبار مثل سمير عاقل، سلمان مروة، ماهر سوبرة، سليم فرزلي، سليم مسلم، غسان دبيبو، فادي بيطار، سمر موقت، فادي بيطار، رشيد حيدر، علي طاهر وغيرهم. وأنا بدوري — لترحالي في أرجاء المستشفى — عاصرت عظماء كالدكتور ابراهيم داغر وزياد سالم وجورج زيتون وأنطوان نصر الله وموريس خوري وماهر حسين وإبراهيم سلطي وكرم كرم ومنير خاني وغيرهم.
في المستشفى أبصر بكرنا جاد النور على يد الدكتور محيي الدين سعود؛ وبعد خمس سنوات من الشدّ والردّ بيننا رزقنا الله بميرا —بسمة البيت. معاً تحملنا المسؤولية وقسطنا شقتنا شهرياً وعشنا مرحلة حرمان دامت سنوات. عملت زوجتي في دوام ليلي، فكنتُ أبقى مع الأولاد لرعيتهما. تسهر وتكدح والناس نيام، وأنا واحد منهم. كانت سهراتها وزميلاتها طويلة ومختلفة؛ مع المرضى الأطفال طوال الليل حتى طلوع الفجر. أنا ومعي معظم أهل البلد كنا نغرق في أحلامنا ويبقى الساهرون ومنهم الممرضات والممرضين على راحة المرضى وإنقاذ حياة بعضهم. السهر على نغم الموسيقى حتى الصباح أمام ما لذّ وطاب ليس عيباً (لمن استطاع إليه سبيلا). لكن السهر على أنين المرضى وأصوات الآلات الطبية وطنينها أمر آخر لا يعرفه سوى من ارتدى ثياب التمريض.
كانت لها 33 سنة من التفاني والعطاء. أحبت مهنتها رغم التعب؛ لأنها في علاقة مع وجع الإنسان ورضى الله. لطالما أخبرتني عن معاناة المرضى وأهلهم؛ ومع الوقت بدأت أشعر أنها تفقد شيئاً من بريق ومتعة الحياة. فكثرة العيش والإحساس بمشاكل المرضى لا بدّ وأن تنعكس على الممرضة؛ خاصة مع أصحاب الحالات المستعصية. المهنة تتطلّب الكثير الكثير من الصبر والثقة بالنفس والقدرة على التواصل مع الأهل. الممرضة أو الممرض جنديّ سلاحه العطاء والمحبة.
كانت لها علاقة مميّزة مع مريض وضع على جهاز التنفس الاصطناعي يدعى عباس. بسبب خطأ طبي أصبح قدره أن يمضي بقية حياته على هذه الحال. كثر حديثها عنه، فقرّرت زيارتها في العناية المركزة للأطفال للتعرّف إليه. تأثرت لحال عباس صاحب الضحكة المكسورة.. خرجت بسرعة ودمعت عيناي. وإذا حدث وأطالت الغياب عن القسم، كان عباس يتصل بها في المنزل لترفع معنوياته.
الأجيال التي أوجدتها الممرضة فلورنس ناتنيغيل – صاحبة لقب «سيدة المصباح» لخروجها في الليل الى ميادين القتال لمساعدة الجرحى خلال حرب القرم؛ وهي تعتبر رائدة التمريض الحديث — مشوا على خطاها في التفاني في العمل والتضحية من أجل راحة وصحة المرضى والجرحى ولو على حساب صحتهم وحضورهم الاجتماعي. فمهنة التمريض هي مهنة شاقة وخطرة تترك أثرها على الجسد والروح معاً. لذلك هي مطلوبة جداً عالميّاً. وتعاني من نقص حاد مقارنة مع مهنة الطب. يقال اليوم للذين يتخرّجون من مدرسة التمريض أن في يدهم «باسبور» وليس شهادة، يفتح أمامهم أبواب كل الدول الموصدة بإحكام.
بالعودة إلى الممرضة ليلي حيدر ابنة الكورة الحبيبة التي تشبه ناسها كثيراً في بساطتهم ومحبتهم وانفتاحهم على الآخرين. هم كزيتون أرضهم: معطاؤون أذكياء ومرغوب بهم. ليلي حلت وسطنا كتلميذة تمريض تعمل معنا في الطابق السادس كي تعيل نفسها. ذكية بشوشة نشطة ومحبة. أذكر شعرها الأشقر المنكوش وضحكتها كشمس الكورة وصداقتها التي بدأت من يومها مع زوجتي. دار دولاب الزمن، تخرّجت ليلى، وأصبحت مسؤولة عن وحدة العناية الفائقة للأطفال حيث يتم اختيار الممرضات والممرضات للعمل فيها بعناية فائقة. فرحت زوجتي لنقلها كي تعمل مع زميلتها السابقة. أبدعت ليلى في إدارة الوحدة وحوّلت القسم عائلة واحدة. يد واحدة لمصلحة المرضى، ومشاركة اجتماعية مع فريقها في الخارج.
كانت لي ولزوجتي فرصة حضور حفل زفافها من زميلها زياد أبي اللمع؛ فالزيجات المختلطة ليست بظاهرة جديدة في الجامعة سواء بين الموظفين أو الأطباء أو الأساتذة. هي مسيحيّة أرثوذكسيّة وهو مسيحيّ مارونيّ من أصول معروفيّة قديماً (قصة تحول آل أبي اللمع معروفة بعد أحداث 1860). فرحت جداً عندما نطقا بكلمة «نعم» أمام الخوري في تلك الكنيسة العتيقة والتاريخيّة.
كان عرسهما من أجمل وأكرم الأعراس التي حضرناها معاً.
منذ أسابيع، صرفت الجامعة حوالي 850 موظف وموظفة، جلهم كانوا من المستشفى. رغم أن الإدارة كانت تتحدّث عن هذا الموضوع منذ أشهر بسبب أزمة الكورونا ووضع البلد المالي والاقتصادي الصعب، لكن المشهد أمام المستشفى كان محزناً.. بل صادماً. «الحكي مش متل الشوف».
كنا في البيت نتابع الأخبار أمام التلفزيون. فطلبت من زوجتي الاتصال بمسؤولتها لمعرفة مصيرها.
مكالمة هاتفيّة قصيرة.. أنهت 33 سنة من حياة ممرضة.
«لا تحزني»، قلت لها، «السيدة غلاديس مورو أيضاً اًجبرت على ترك منصبها رغم سنوات طويلة في إدارة دائرة التمريض في أصعب ظروف الحرب». لقبتها «بنايتنغيل لبنان» لكثرة الإنجازات التي حققتها لصالح مهنة التمريض. خلال الحرب الأهلية، طارت الى الفليبين وجلبت ممرضات كي تضمن استمرار عمل المستشفى. كما أسست مدرسة خاصة لتعليم مهنة التمريض بفضل قوة شخصيّتها وتصميمها. كانت المدافع الأول عن أهل المهنة، فهي منهم. أمنت لهم «بطاقة وجبة طعام» مجانية تستحق دون التمييز بين رتبة وأهمية عمل الممرض أو الممرضة. خسارتها كانت خطأ استراتيجياً فادحاً.
تحية الى زوجتي الممرضة غادة شرف الدين، أم جاد، التي أحبّت مهنتها رغم كل الصعاب والتحديات، خاصة في الثلاث سنوات الأخيرة. وألف تحية ووردة للزملاء والزميلات الذين أصبحوا خارج العمل.
خرجت «أم جاد» مكسورة الخاطر لأن آخر ثلاث سنوات لها في المهنة كنت الأصعب لفقدانها التقدير والاحترام من مسؤولة تعتمد أسلوب المفاضلة وتمسيح الجوخ. طلبت منها يوماً أن تصوّر والدها المريض والمحتضر في العناية الفائقة في «مستشفى الساحل» كي تبرّر سبب غيابها عن العمل بصورة مفاجئة!
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.