«نزاز»… باركنسون العرب!
بقلم سيد محمد الياسري*
كل هذا مباح لرجل يملك أصابع مثل أصابعك، على الأقل أن تترك لهم جملة بين قوسين تدلي بأن ما مرّوا به هو فصل تالٍ من مرويتك الجديدة «نزاز» التي لم يبرح منها مقام للعرب إلا وذكر طلال مرتضى ذلك الرعاش – باركنسون – في «نزاز» الذي ربما يؤدي بهم إلى موت حتميّ أو أن الحتمية تبدأ من شرق أوسط الأرض تشرق ثم يصيبها التخفّي إلى نهاية ليس بعدها لدار الفناء بداية..
لم يستثنِ طلال مرتضى نفسه من باركنسون لأنه حتمي على الأسلوب نفسه الذي لا يشعر به مع أنه أضاف إلى «نزاز» من حياته الخاصة من دون أن يخلق مبررات كما فعل غيره من الأدباء ولا سيما ظهور (الببلومانيا) جنباً إلى جنب باركنسون، ولا سيما القرآن الكريم الذي يقتنيه كل مسلم في بيته لكن النسبة الأكثر منه ببلوماني بل يوجد في السيارات وإطارات المعارض، ومحال البيع وحتى صالونات التجميل..الخ، الا أن الشعور به بات حاجة لأن يكون بجنبهم من دون النظر إلى ما داخله، تعبيراً منه إلى أن العرب لا ينظرون مطلقاً في داخلهم، أما ما حفظوه من نتف بالإجبار كعلامة سوط والده الذي يجبره على صلاة الصبح مع أنه يؤدي تلك الصلاة ولا يستطيع أن يبوح لوالده أنه على (جنابة) فتخرج منه روحاً وبدناً، هذه القوة تبدأ بالانهيار كلّما تقدم الزمن يصبح باركنسون يهزّ جميع مفاصله حتى بات لا يستطيع أن يمسك السوط «صولجان القوة».
ليس «نزاز» تعبيراً شخصياً للكاتب وإن كلّلها بإكليل واقعه بصدق من دون أن يبرر لنفسه أو يحاول أن لا يميط اللثام عن شخصه، ففيها جزء كبير من حياته هو نفسه الكاتب يعترف أمام الجميع، لكن من الغامض على الكاتب أن في أسلوبه شيئاً، أراد أن يقول باعترافه انه تمرّد عليه ونجا منه، فطلال مرتضى من دون شعور لا يرى الأسلوب الآخر الذي بدا طافياً على الرواية ولو فصل نفسه عن واقعه يمكن ترفع الرؤية لكن بجزئية، لأنه من المستحيل أن يراه وقد آل على نفسه أن يرميه أول عبوره البحر بعيداً في منتصف مسافة التجديف للشاطئ الآخر، فأبوه والحارة وأمه والحجارة والدكان، والسوط والقرآن.. الخ كلهم معه، إلا أن ما لم يراه من هذا الإرث ما زال يتلو القرآن من دون أن يعلم، وما زال ينسى بتلاوته، تلك الجنابة، فالأسلوب القرآني واضح في سطور الرواية بل هناك أوزان من الجمل مطابقة لتلك التراتيل الشبابية فيه وهناك ما هو مطابق لآية قرآنية بتغير بسيط أو بتغير كلمة أو أحياناً لا يوجد تغيير كأن طلال يريد أن يمحي مالا يمحى، وكأنه يريد القول إن العرب تقول ما لا تفعل وها أنا نزاز جزء منها.
لا تعني القرية إلا ذلك المتسع لكل مكان عربي، فليس سورية ولا فلسطين بقدر ما هي أي مكان يسكن فيه العرب، وليست تلك الروايات الحديثة من أصدقائه إلا ببلومانيا العرب الذي يقتني صوراً لكتاب وواقع، وذلك الدكان عبارة عن مجمع لكل الفتن، والرزق والشائعة، والمعلومة، والساسة والحكومة… الخ لهذا هو حكومة البلاد وان كان هناك مديراً وأمناً وشرطة وما الجامع إلا تلك الصفحة البيضاء اللامعة من الناس البسطاء الذين لم يدركوا من أين جاء الإمام (شيخ الجامع) وما يريد منهم، نعم عندما يدركون أنه ليس رجل دين، يظلون يسألون ما فائدة هذا عندما جاء إليهم جاسوساً وليس شيخاً هادياً، لأرض ليس فيها خير. نعم سؤالهم يعود للصيغة نفسها التي أراد طلال مرتضى البوح بها، أنهم لا يعلمون ما بداخلهم فكيف يعرفون ما في داخل الأرض؟
الانشغالات الطفولية تلغي أن البراءة لا حدّ لها، فالخصر والثوب الملتصق على المرأة وهي تسبح بالنهر أو البركة، تجعل أن البراءة لها حدود ولم تكن تلك الحدود بتلك السعة بل هي مرسومة لحد الرؤية التي سقطت من نزاز على فتيات القرية وتنتهي وتضمحل البراءة عندما يطوق الطفل خصر بنت القرية كي يساعدها، إلا أن العرب هكذا تبدأ لا تحسّ الا بالخصر منذ الطفولة، بينما لحد العقل والكهل لا تعرف أن إمام المسجد ليس مسلماً بل جاسوس «إسرائيلي».. هذه الحدود العنفوانية تتسع بالغريزة الجنسيّة، بينما القوة والعقل يصاب كلما تقدم بالرعاش (باركنسون)..
نزاز وضع خريطة العرب الحقيقية، وليست تلك الحدود بل خريطة المفهوم الحسّي للشخص العربي الذي بدا بالانهيار تحت وصف أن اعتاد على تلك الظروف (المذلة والقاهرة والفقيرة) وتلك القوة التي تنمو فقط فيما بينهم ثم تبدأ بالرعاش الخارجي، لم تكن تلك الرسوم التي قدّمها إلا حياة العرب التي تهتم بالأقاويل وتنتهي بالتصديق بها، ولم يظهر حدود الداخل بمظهر حدود الخارج، فالفقر نابع من ذاتهم وليس من تلك الأرض والتدبير بات ضحلاً حين يقرّر موقع الدكان شرف فتاة أو سؤال عن شرفها.
الأسلوب الذي قدّمه طلال مرتضى مختلف تماماً عن أي أسلوب روائي اختص به ليس لأنه كشف عن مضامين صادقة في حياته، ولا لأنه لم يستطع الابتعاد عنها رغم محاولاته في التغيير، من حيث إن كتب ما ينقده ويحاول أن ينفيه، كما أن الأسلوب امتزج مع المضمون، والهدف، فالقصة التي رسمها كان فيها الأسلوب رسماً لنفس القصة ولنفس الهدف من حيث – مثلاً – ببلومانية العرب وطلال مرتضى أيضاً كتب ببلومانية، إذ كان أسلوبه يصف مع الصفة وكأنما اتّحدا الواصف والموصف بهدف واحد، وإن القوة التي يمتلكها العرب هي غلاف وراثيّ يعيشون عليه سرعان ما يتقدّم العمر بها ويظهر الإرث الباركنسوني فيسقط الصولجان، حتى في الكتابة، فإنه مهما كان محاولاً أن يبعد عن ذلك القهر العربي بكل أشكاله، يجد نفسه يتحدث بأسلوبه لينتقده فهكذا تكون «نزاز» باركنسون العرب من قادة لا يعون ما يفعلون أو أنهم مسيّرون تحت أضعاف من الأقاويل، إلى شعب يحمل الأقاويل نفسها إلى قادته لتعود عليه بالطيف نفسه حتى يضعف ويرتعش.. فلا يقظة بقدر أن يترك الإنسان ماضية المريض أصلاً، ولا عافية من دون معرفة العلّة.
السيميائية هنا تختلف تماماً عن أي سيميائية في الكتابات الأخرى، صورة الثوب المبتلّ الملتصق بالجسد لا تنعكس بنفسه الا أنها منغمسة مع براءة الطفل التي يناشدها العرب في كل كتاباتهم، مع ظهور الأوزان في الجمل مطابقة للقرآن الكريم، أنه ذاك الذي نتعلمه جباراً وقهاراً في الطفولة التي تحتاج إلى الرحمن الرحيم الضائعة بين العرب تماماً، هي صبغة شعرية تحدث عنها جاكبسون في طيّ كلّ من الرومانسية والانطباعية والكلاسيكية والتعبيرية..الخ، كلّها تحت طي الشعرية بانزياحات قصدها طلال مرتضى كي تكون خاصة به من حيث الأسلوب الطلالي وتحت تعبير شعرية جون كوهين للأسلوب بأنه: «كل ما ليس شائعاً ولا عادياً ولا مطابقاً للمعيار العام المألوف – بنية اللغة الشعرية: 15، فصياغته من حيث اختيار المفردات اللاواعية والواعية هي تراث بين إرادة التسجيل لحبكة القصة وثيمتها والهدف، وذلك الاختيار الواعي الذي كتب فيه ملتحماً مع أسلوبه الهارب في إيقاعات كأنه يصيغ من أوزان القرآن وينحدر إلى أعظم الكتاب ثم يعود باللغة لمعيارها المرسوم تحت بلاغة العرب، ليزجّ حتى الأمثلة ويجعل نهايات بعض الفقرات نهايات إيقاعية للدلالة ان هذا القرآن الذي يملأ البيوت ببلوماني، ما زال في نفسه ويتجه بالعرب في انزياح معياري خاطئ فهم لم يفهموه ولم يفهموا ذلك الرب الرحيم، بل فهموا صيغ تقاليد رسمت لهم وظلوا كالقطار لا يحيد عن سكته المرسومة له بانتظام حتى تخور قواهم تحت تلك المعايير الخاطئة من انشغالات حثية بين حكام ورعية بعضها يستغفل بعضاً بأطر تراثية لا تستنهض إلا من بعض الجمر تحت رماد الفتنة..
نزاز في النهايات لا يلمه مقال، فنحن سلّطنا على رؤوس أقلام وتركنا بعضها لبحث أكاديمي كي ينظر للأسلوب الباركسوني في رعشته العربية الأخيرة.
*كاتب عراقي