تأثير الأدب العربيّ على الأدب الغربيّ!
} د. أميرة عبد العزيز*
في هذه المقالة سوف أتناول تأثير الأدب العربي على الأدب الغربي، ولن نغفل في طريقنا تأثير الأدب الغربي على الأدب العربي «البروسيسور» الذي يُعرف بما يسمّى الأدب المقارن في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية.
والأدب المقارن كما عرّفه الناقد الأميركي هنري ريماك هو عبارة عن دراسة أدب ماوراء الحدود، بمعنى مقارنة أدب معين بأدب آخر تأثّر به..
إذن من الإنصاف أن نعطي للأدب العربي حقّه ونبدأ بالتفكير بتكثيف البعثات الطلابية لدراسة الأدب المقارن في الجامعات العربية كما شأن الجامعات الأوروبية والأميركية.
للأدب العربي أثر عالمي وليس فقط أوروبي، فاللغة العربية أثّرت على إيران وما زالت تكتب بالحرف العربي حتى يومنا هذا كما أثرت على تركيا وبقيت تكتب بالحرف العربي حتى سنة 1926 وكذلك طاجكستان وجمهوريات أواسط آسيا التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي تكتب بالحرف العربي، وقياساً على ذلك كان للغة العربية تأثيرها على كثير من اللغات، ومنها اللغة الفرنسية وذلك من خلال الفتوحات الإسلامية والبعثات العلمية، فقد كادت اللغة العربية أن تصبح لغة العلم والطب والفلسفة في أوروبا، ويعزّى ذلك إلى الازدهار الذي شهدته الأندلس في شتى ميادين العلوم والآداب، فكان الطلبة الأوروبيون يتّجهون للأندلس لطلب العلم وتعلّم اللغة العربية التي كانت حينها لغة العلم والتواصل الفكري والحضاري..
هناك الكثير من الشواهد على تأثير اللغة العربية في اللغة الفرنسية، منها ما ذكرته الباحثة الفرنسية «هنريت والتر Henriette Walter» في كتابها «كلمات فرنسيّة أتت من الخارج» عن وجود أكثر من (500) كلمة فرنسية ذات أصل عربي، كما تطرّق الكاتب الفرنسي «بيير جيرو Pierre Noel Giraud» إلى تأثير اللغة العربية في اللغة الفرنسية وقدّم قائمة بأكثر من 300 كلمة دخلت من العربية للفرنسية في عصور مختلفة من التاريخ مثل شراب، زرافة، خليفة، قميص، كيمياء، وللعلم فإن العديد من الألفاظ الدينية المستعملة باللغة الفرنسية هي من أصل عربي وتلفظ كما هي مثل: مسجد – إمام – مؤذن – منارة – عيد.
إذن، إذا كانت اللغة العربية لفظياً قد اجتاحت العديد من اللغات ومن بينها اللغة الفرنسية، لم لا يكون الشأن نفسه بالنسبة للأدب العربي!
تاريخياً، عندما انتقلت الحضارة العربية إلى بلاد الأندلس تأثر بها الأوروبيون وكانت الانطلاقة من جنوب فرنسا.
وباطّلاعهم على الشعر العربي مالوا إلى الشعر العاطفي فبرزت القصة الشعرية العاطفية كنوع أدبي مستحدث، يقول الكاتب الفرنسي جوستاف كوهين: «إن النهضة القصصية انبثقت من روح الشعر الغنائي العاطفي الذي شاع في فرنسا وقت ذاك بأثر من الشعر العربي في الأندلس».
هذه الحقبة لها أثر بالغ على الأدب الأوروبي بأكمله فخلالها أصبح الأدب العربي معروفاً في أوروبا بشكل خاص من خلال الشعر العربي على الرغم من أن فهمه كان صعباً على القارئ الغربي العادي حيث وصفه المستعرب الفرنسي آر بلانشير بأنه «بستان سري»، يتطلّب الولوج إليه معرفة عميقة باللغة العربية وثقافتها.
وبحلول القرن الرابع عشر الميلادي، كانت أعظم قوتين هما المماليك في مصر وسورية والعثمانيون في الأناضول والبلقان ونظراً للاحتكاك والتداخل مع أوروبا فقد امتدت الأعمال المعرفية المكتوبة باللغة العربية إلى انجلترا في القرون الوسطى وبعدها إلى الثقافات واللغات الأوروبية الأخرى، وخاصة منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط مثل الإسبانية والإيطالية والفرنسية، وهناك ظهر اهتمام كبير بالأدب العربي.
وقد ترجمت قبل ذلك بكثير إلى اللغتين الإسبانية واللاتينية مجموعة من أقوال فلاسفة الشرق الأدنى وبلاد الإغريق «هيرمس وهوميروس وأفلاطون وأرسطو.. إلخ»، والتي جمعها في عام 1053 الحكيم المصري أبو الوفاء المبشّر بن فاتك، كما ترجمت «رسالة الغفران « للمعري ومؤلفات إبن سينا وإبن رشد.
كما تمّت ترجمة العديد من الحكايات وأهمها «كليلة ودمنة» التي ترجمها للفرنسية أنطوني وديل، قد تقولون إن هذه القصص تعود لأصول هندية، فليكن لكن لولا ترجمة ابن المقفّع لهذه المجموعة باللغة العربية ما كانت وصلت إلى الأدب الفرنسي وعليه فأثر الأدب العربي والترجمات العربية على الأدب الفرنسي جلي لا نستطيع إنكاره.
وقد زاد هذا التأثير في منتصف القرن التاسع عشر مع تكوين صورة للحياة الشرقيّة من خلال ترجمة «ألف ليلة وليلة» التي تعد من أهم الأعمال التي أحدثت صدى في الوسط الفرنسي تحديداً.
ولدينا مراجع عديدة في هذا الصدد منها:
«ألف ليلة وليلة ألهمت الأدب الفرنسي» لحلمي التميم و»مكانة ألف ليلة وليلة في الأدب الفرنسي» لياسمين فيدوح، وبحوث ومقالات أخرى، وبالتأكيد لن نغفل تأثير ألف ليلة وليلة على أدب فولتير القصصي حيث اقر بنفسه أنه لم يبدأ في كتابة القصة إلا بعد أن قرأ ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة.
وفي العصر الحديث كان للأدب العربي حضوره كذلك في الساحة الأدبية الفرنسية وإن لم يكن مؤثراً بالمعنى الدقيق إلا أنه لاقى الكثير من الاهتمام والشاهد على ذلك الاهتمام الذي لاقته مؤلفات عميد الأدب العربي طه حسين منذ صدور رسالة الدكتوراه التي حصل عليها من السوربون في طبعة عن دار نشر « Abidon» وترجمة كتابه «الأيام» إلى الفرنسية، كما صدرت عام 1949 الترجمة الفرنسية من رواية «دعاء الكروان»، وكذلك ترجمت العديد من أعماله حيث بلغ مجموعها أحد عشر عملاً، كما نشرت «الجامعة الأورو–عربية» بمونبيليه في عام 1990 دراسة عن طه حسين بين شاطئي المتوسط، فيما نشرت دار «témoin d’humanité» الفرنسية دراسة بعنوان «طه حسين، الثقافات والحوار» للباحث الفرنسي برونو رونفار.
كما التفتت دور النشر الفرنسية في أواخر السبعينيات إلى الروائي المصري نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للأدب.
ومن الشواهد كذلك على حضور الأدب العربي حديثاً في فرنسا ترجمة بعض الأعمال الأدبية العربية الحداثية على سبيل المثال بعض من أشعار محمود درويش.
إلى حد الآن تحدثنا عن الأعمال الأدبية المترجمة إلى اللغة الفرنسية والتي أثرت المكتبة الفرنسة وأثرت على الأدب الفرنسي..
طَيب ماذا عن الأدباء العرب الذين ألّفوا باللغة الفرنسية؟!
جميعنا نتفق على أن أي مؤلفات باللغة الفرنسية تعدّ أدباً فرنسياً أياً كانت جنسية الكاتب طبعاً باستثناء الترجمات للغة الفرنسية التي تبقى نوعاً ما فقط إثراء للمكتبة الفرنسة.
ينقسم هؤلاء الأدباء إلى مجموعتين:
١– أدباء خارج المهجر.
٢– أدباء داخل المهجر.
المجموعة الأولى كتبت باللغة الفرنسية (كلغة المستعمر ليس إلا).
وربما كانت هذه الميزة الوحيدة للاستعمار الفرنسي فبفرض نمط عيشه وثقافته ولغته بغرض تهميش اللغة العربية، أنشأ هذا الجيل الذي فرض حضوره على أحفاد فولتير وزولا وهوغو وبودلير.
من بينهم مجموعة لا بأس بها أثرت المكتبة الفرنسية، وقد برزت منذ خمسينيات القرن الماضي أسماء متميزة عديدة في النثر والشعر، تعتبر اليوم من كلاسيكيات هذا الأدب، مثل كاتب ياسين ومولود فرعون ومالك حداد من الجزائر والطاهر بن جلون في المغرب، ومحمد ديب أيضاً من الجزائر، وأحمد السفريوي وإدريس الشرايبي من المغرب، ومحمود أصلان والهاشمي البكوش من تونس، وجورج حنين وجويس منصور وألبير قصيري من مصر، وجورج شحادة وأندري شديد وإيتيل عدنان وصلاح ستيتية من لبنان.
كان النتاج في عمومه له نبرة نضالية مباشرة، أو منخرطاً في تيارات الحداثة الأوروبية. أما المجموعة الثانية التي ولدت ونشأت في المهجر فعرفت بأدب «beur» (البور) من كلمة «Rebeu» هي كلمة تطلق على العربي المهاجر في مطلع الثمانينيات، هذا الأدب عبارة عن نصوص سرديّة كانت في جملتها سيراً ذاتية أو شهادات يروي من خلالها الذكور صعوبة العيش في الضواحي الفقيرة، والميز الذي يلاقونه في المدرسة والشغل والقضاء.
فيما تروي الإناث حالات التوتر داخل العائلة، كسلطة الأب، الغائب عادة، أو الأخ الأكبر، المهمين على الدوام، وعدم تفهّم الأم، الأمية في الغالب، وصراعهن من أجل الانعتاق من السلطة الذكورية.
كانت محاولة أدبية لفتت لها الأنظار لكن ما فتئت أن وضعت مؤلفيها في خانة شباب الضواحي الخانة التي كانوا يناضلون من أجل كسر طوقها..
جاءت بعدها المحاولة الثانية من كتاب العشرية الذين رفضوا هذا التصنيف وجاءت نصوصهم أكثر اتزاناً من حيث المضمون الذي تطرّق لقضايا الضفتين، ومزج الشكل الفنّي الشرقي والغربي حتى عند معالجتهم لقضايا المهجر كان العمل الفنّي والأدبي هو الطاغي على النصوص بعيداً عن الإيديولوجيات التي توسم بها أعمال سابقيهم، فإذا كان جيل الرواد قد اختار الفرنسية لتكون شاهداً على ما يحدث، وأداة لإيصال صوته.
فإن الجيل الذي تلاه اختار أن يكون النصّ عملاً فنياً أولاً وقبل كلّ شيء.. هذا الزخم من الإنتاج الأدبي باللغة الفرنسية أفرز أعمالاً متميزة في الشعر والقصة والرواية بوأت أصحابها مكانة متقدمة في المشهد الثقافي الفرنسي والعالمي (من ذلك مثلاً أن آسيا جبّار مرشحة منذ سنوات لنيل جائزة نوبل)، وجلبت لأصحابها جوائز كبرى مثل جائزة الأكاديمية الفرنسية التي منحت للهاشمي البكوش عن رواية «إيماني باقٍ»، وغونكور «Goncourt» التي أسندت إلى الطاهر بن جلون عن روايته «ليلة القدر»، ثم إلى أمين معلوف عن «صخرة طانيوس»، وغونكور «Goncourt» القصة القصيرة التي منحت لفؤاد العروي عن مجموعته «قضية سروال داسوكين الغريبة»، وجائزة رينودو «Renaudot» التي فازت بها نينا بوراوي عن رواية «أفكاري السيئة» علاوة على جوائز أخرى كثيرة، تشهد عن حضور عربيّ – لافت ومؤثر في الأدب الفرنسي..
فإذن ليس من الغريب عندما نتصفّح رفوف أي مكتبة فرنسية أن نجد مجموعة كبيرة من الكتب عن الثقافة العربية باللغة الفرنسية. وأيضاً كماً هائلاً من المؤلفين الفرانكفون.
ولعلّ كتاب «المغتربون» للكاتب محمود قاسم الذي صدر عام 1996 بعنوان «الأدب العربي المكتوب بالفرنسية»، والذي يسرد مجموعة لا بأس بها من الكتاب العرب خير دليل على ذلك.
إنهم من العالم العربي، جميعهم مهاجرون، حبر أقلامهم فرنسي وروحهم عربية. أنا لا اوافق فكرة انهم واقعون في ازدواجية ثقافية، بل انهم يتمتعون بتنوع ثقافي جعل مخزونهم غنياً بمراحل، وجعل نتاجهم يتسم بطابع خاص فالشعور بلغة والكتابة بأخرى من أغنى الأنواع الأدبية.
انه حال أغلب أقلام المهجر، لعلّ إبداعات مي زيارة وجبران خليل جبران خير دليل على هذا الزخم الأدبي مهما غيّرت المحابر من لغات تبقى لروح القلم بصمتها..
هذا الأدب ليس فقط أدباً فرنسياً يثري الوسط الأدبي، بل أيضاً يحمل الهوية القومية العربية لروح الكاتب. ولا يفوتنا بالذكر أديبنا المرموق الروائي واسيني الأعرج الذي على رأي الكاتب حاتم زهران «عندما يكتب واسيني تصاب الرواية بالدهشة والذهول».
فِي الختام أكرّر، هذا التأثير لم يكن وليد لحظة تاريخية واحدة أو نتاج حدث ما ولكنه كان مرحلياً ومتدرّجاً ضمن قرون عديدة من التداخل الثقافي.
*أستاذة محاضرة في السوربون وعدد من الجامعات الفرنسية. باريس.