ثقافة وفنون

الشاعر صالح جرار يوثّق تجربة القيد (2)

 عمر عبد الرحمن نمر*

تلك هي التراجيديا حالكة السواد، يصورها شاعرنا في مشاهد بعنوان زيارة أسير في سجون الاحتلال الصهيونيص 45، 46، 47… يُفصّل الرحلة برؤية الشاعر على المشاهد فينقلك معه في رحلته، ويصل بك تذويت الفكرة إلى تقمص شخصية الشاعر، وتجرّع مرارة الرحلةوبذا تظهر إمكانات شاعرنا الشعرية، فالشعرية عنده هي مكوّن التجربة، وتعليقها بحروف وألفاظ دالّة، ومن ثم تتخلق الثنائيات وتتراوح بين النفي والصمود، والنضال والاعتقال، وفرح اللقاء الجزئي المشوب بحزن البعد والفراقولعل ثنائية اللقاء الحقيقي والخروج من الزنزانة إلى العالم الحقيقي، هي التي تتناقض وديمومة العذاب والاعتقال

يتساءل الشاعر بحزن ومرارة:

 أتعود يا إسلام تروي سمعنا……….. بندى الحديث وطرفة الشبان

أتعود تمسح بالحنان جراحنا………. أتعود تبصر بدرك العينان (ص 41)

هل تعود؟ وتفرح الحياة بعودتك، وتملأ الدنيا فرحاً وسعادة؟ ننتظرك يا إسلام:

أنا في انتظارك فلتعد بدرا ينير لي الطريق

أنا في انتظارك فلتكن حبل النجاة لذا الغريق  (ص 43)

وإن لم يتحقق الواقع، يرى الشاعر الوالد ابنه في حلمه:

إني رأيتك يا إسلام في حلمي……… حراً طليقاً، فما أحلاه من حلم

فهل يحقق ربي حلمنا فنرى……… عيناً تقر بجمع الشمل في حرمي (ص 56)

ويتأكد الشاعر من تحقيق الحلم بمشيئة الله:

غداً سيجمعنا ربي بمنزلنا……. ويرجع الطير يشدو وهو محبور

غداً سيرجع إسلام فيوردنا…….. نهر السعادة والأنغام تكبير (ص 72)

ولعل في جملة (يجمعنا)، معاني اجتماع الأسرة الجسدي والروحي، واجتماع الأسرة هو بديل النقص فيها بسجن أحد أفرادها، وفي ظرف الزمان (غداً) معاني الأمل وتحقق الحلم:

يا حبذا الأيام تجمع بين حبات القلوب

يا حبذا العيش النضير كأنه الغصن الرطيب

فالوُلد حولي يعزفون لروحي اللحن الحبيب

رأيت نسرين القلوب تبذ أزهار الربيع

والفكر مأسور بإسلام….. وإسلامي منيع (ص 12)

وتجتمع العائلة في حبور وسرور:

أنتم يا بنيّ ربيع العمر مزدهرالكنني بقضاء الله محدود

نسرين قلبي، وإسلام النهى بصري….. وذا محمدنا، في عمرنا عيد

إن أنسَ لا أنسى أحفاداً لنا نجباً……. أحيوا خريفا!! فهم للعمر تجديد (ص 29)

لقد استطاع شاعرنا بما امتلك من أدوات اللغة والفكر، وعمق التجربة، والعواطف الجياشة، والإحساس بالمرارة، أن يجمع بين أدب الأسْر، وأدب الأسْرَة، من خلال قيد الزنزانة، وظل الأسرة الوارففها هو أنشد لابنته نسرين، ولأولاده، وأحفاده، لكن بدا ذلك كله برعاية الغائب عن العين الحاضر في القلب إسلام.

السؤال الذي يلحّ:

ما الأدوات التي وظفها الشاعر لتحقيق مضامين نصوصه ومعانيها؟

الجذر الذي امتدّ، وتفرّع ضارباً يذرع أرضية النصوص كلها، هو الجذر الإسلامي، تكاد تحس هذا التوجه في مضامين النصوص، وتزين المفاهيم الإسلاميّة بما تحتوي من الإيمان الحق بالله، والتوكل عليه، وبما يتفرّع من ذلك، من مفاهيم الجهاد في سبيل الله، والشهادة، تزين نتاج الشاعر بأكمله، وقد ساعد في ذلك التحدّث عن نضال الأسير إسلام والتضحيات التي يقدمها، ولنتأمل هذه المقاطع التي اتكأت على العقيدة، بل شكلت تناصّاً دينياً:

أنتم يا مَن حملتم راية………….. في سبيل الله، والقوم نيام

أنتم الصفوة من أمتنا…………. أنتم الأقمار والدنيا ظلام

إن ما أنتم به من كربة………….. هو باب الأمن في يوم الحساب

يوم يغشى الناس كربٌ هائل……….. وتلوذون بأكناف رحاب

فعسى أن تكرهوا أمراً، به……….. كل خير ومع المكروه يُسْرُ

كتب الله لكم رضوانه…………. فهنيئا إن عفو الله خير (ص 34)

ومن هذا المنطلق العقدي الإيماني الشعري، عادة ما يختتم الشاعر معمارية نصه بالدعاء إلى الله، والتوسل إليه، أن يفرج عن ولده، وباقي الأسرى، ويُعيد الوطن لأهله:

إنا لندعو الله حسن خلاصهم…….. من أسرهم فهو القدير الأوحد (ص 49)

سبحانك اللهم أنت ولينا…………. فانصر مجاهدنا وكل طريد (ص 47)

عساك يا عيد تأتينا، وقد كشفت………. هذي الكروب، وفي الأقصى لنا عيد (ص 31)

رباه يا رحمن إنا عند بابك في رجاء

رباه قد ضعف القويّ، وشأننا أبداً بكاء

رباه فارحم ضعفنا بسراح إسلام الهناء (ص 14)

وقد استلهم شاعرنا القصص القرآني في بناء حكايته الشعرية، تلك القصص التي تجلي المعنى وتعززه، وتعيد إنتاجه في سياق حداثيّ، يلائم الأسر والقيد:

وعدو الله لن ينجو من………… قبضة الجبار فالأمر إليه

أنجا فرعون من قبضته؟…….. أم طواه البحر مغضوباً عليه؟ (ص 34)

تلك هي قصة عذاب فرعون لما طغى، لخصها شاعرنا ليذكر الطغاة بوعيد الله لهم وعذابهوها هو يأتي بحزن النبي الصابر يعقوب وبثّه، ليعبر عن حنينه وأنينه لولده إسلام القابع في الأسر:

والآه بعد الآه في أحشائنا………. نذر الفناء فهل لنا مَن يغضب

يعقوب فاض حنينه وأنينه……….. والحزن يسكن في حشاه ويغلب

وابيضّت العينان من فرط الأسى……… أو بعد الأسر همّ يتعب (ص 9)

وتتشكل صورة حزينة أخرى لقصة يعقوب وحزنه نتيجة فراق ابنه يوسف عليهما السلام:

يعقوب جنّ جنونه بحبيبه……… وابيضّ منه الطرف من أحزان

فهل الحبيب يعود عودة يوسف…… فأرى الضياء بثوبه الريحان (ص 37)

ويتنوّع التناصّ، وقد يتحول إلى تناصّ أدبي، أتى ذلك في سياق جمع الأسرة ولمّها، وقد عاد الأسير إلى حضنها، ولنتأمل كيف استعار الشاعر بيت ابن قيس الرقيات (حبذا العيش حين قومي جميع):

يا حبذا الأيام تجمع بين حبّات القلوب

يا حبذا العيش النضير كأنه الغصن الرطيب (ص 11)

ويتكئ على بيت المتنبي: (عيد بأية حال عدت يا عيد) فيقول وقد حل العيد بغياب فلذة الكبد:

عيد بأية حال عدت يا عيد………… بما مضى أم بأمر فيه تجديد؟

يا عيد، يا عيد، ها قد عدتَ مضطرباً…. فقد حللت وما في الروض تغريد (ص 27)

ويأخذ إن البغاث بأرضنا يستنسر للتدليل على ضعف الأمة ومهانتها، وصلف عدوها، أتت تلك خاطرة في ذهن الشاعر وهو يصطف في طابور الذل والمهانة لزيارة ابنه في المعتقل:

انظر بغاث الأرض فينا استنسرت…….. فتخطّفتنا عبر كل حدود

ها نحن مصطفون قيد أوامر………… تلقى علينا من لدن نمرود (ص 45)

إن من الظواهر الأسلوبية التي تذرع فضاء النصوص، التكرار، وقد وظف الشاعر هذه التقنية أيما توظيف، خدمة للمبنى والمعنى، ولا شك في أن مهمة التكرار عند الشاعر قد تعدّت مسألة التوكيد، وانزاحت لتأدية معانٍ جديدة. فالتكرار يأتي بصور الماضي، ويجعل في ترديده نشيداً وأغنية ولحناً، وعندها يكبر الحنين، ويتعاظم أثره:

أيام كانت لنا الآمال ضاحكة………. ونسأل الله أن نجني زواكيها

أيام كانت رياض الوُلد ناضرة…….. تسقى الغيوث وعين الله تحميها

أيام كان لنا طفل نداعبه………… فتنتشي الروح إذ كانوا أمانيها (ص 65)

وهنا يفتح التكرار بوابة واسعة على حدّية المقارنة، بين زمان مضى، وواقع نعيشه، فقد اعتقل إسلام، وهو في المعتقل يقضي مؤبّداته، ونحن نقضي حزننا وألمنا، لقد هيأ التكرار جوقة تنشد الإنشاد الحزين، إنشاداً يستدعي الدموع، والتكرار ولنتأمل حدّية المقارنة:

حتى تبدل ما كنا نؤمله………………… يا ويح أيامنا هبّت سوافيها

وكان ما كان من غمّ ومن كدر…… هل تسمَعَنْ في رياض الدار شاديها

قد غيّب البلبل الصداح عن فنن……….. فهل تراه على الأفنان حاديها (ص 67)

وفي نبرة الحزن نفسها (ص 53) وفي سياق عودة المعتقل، التي تنتظرها الأسرة بلهفة:

أيعود هذا البيت يجمع شملنا……….. أيعود روضي ناضر الأوراق؟

أيعود ذا المشتاق يلثم أرضه………… ويقول فيها قولة المشتاق؟

لاحظ كيف تستدعي صورة الفرح، الروض الحسن، بأزهاره وبلابله وأطيارهوصورة الحزن وقد أتت الرياح المحمّلة بالغبار ودمّرت هذه الرياض، وحيث هجرت الطيور أشجارهاوفي تتابع الصور نفسها، حيث الرياض، والأزاهيروقد دمّرت:

أنا ما ولدتك يا بني لكي تعذب في السجون

أنا ما ولدتك يا بني لكي تزيد لي الشجون

أنا ما غرست الورد في الأحشاء كي أجنيه شوكا

أنا حببت العيش في البستان كي أحياه ضنكا (ص 42)

أنا (ضمير المتكلم) يقص عن حالين بصيغة التقرير، ويرسم الروض وقد امتلأ شوكا َ بدلاً من الأزاهير ونلاحظ التناصّ الديني في (أحياه ضنكاً)، ونرى صورة أخرى لعودة المعتقل إلى أسرته كعودة البلبل إلى روضه، وكأن الشاعر اتكأ على معاني البساتين والرياض واشتقاقاتها ليعبر عن الفرح، ويملؤها شوكا ً وحزنا ً عندما يشعر بالفقد والفراق وعدم العودة. وهنا يمتزج التكرار بالتساؤل، ولعل التساؤل أيضا ً من التقنيات الأسلوبية التي وظفها الشاعر فهي تدعو إلى الشك تارة ً والحيرة تارة ً أخرى، كما تمثل الدهشة في تعزيز الانفعال الوجداني، يقول الشاعر:

أتعود يا إسلام، تأسو أيام الفراق؟

أتعود، يا إسلام، تمنحنا الرعاية والعناق؟

أتعود للروض المشوق وغرسه يوم التلاقي (ص 13)

ثم يذهب في تكرار دعائه، يتوسل الله أن يرحم شيبته وضعفه:

رباه، يا رحمن، إنا عند بابك في رجاء

رباه، قد ضعف القوي وشأننا أبداً بكاء

رباه، فارحم ضعفنا بسراح إسلام الهناء (ص 14)

لعل معمارية النص، نص الأسر والقيد والمعاناة، نص الانتظار والحنين وتمني اللقاء، هذا النص يتطلب تقنية التكرار، كما يتطلب تقنية السؤال، السؤال الذي يستفزّ المتلقي ويحرّضه على التفكير:

أتظل آساد الشرى في أسرها ويسود فينا أرنب وثعالب (ص 7)

فالسؤال فتح آفاق الفضول والاستفزاز لدى المتلقي بالمقارنة الضدية بين الأسد والأرنب، ولعل التساؤل يكشف عن ألم الشاعر وحزنه وأنينه بل وخوفه وقلقه، فهو الذي يوظف علامات السؤال كلها للكشف عن مرامي بوحه:

مَن ذا يعيد إلي ريحان الطفولة في شذاها

مَن ذا يعيد شوارد الأنغام يثملني صداها

مَن ذا يرد ّ إليّ أحلام الفتوة في قواها؟ ( ص 11)

جاءت هذه الأبيات في نصٍ بعنوان (ماضٍ جميل وحاضر أليم)، ويكشف فيه الشاعر عن ثنائيات ضديّة بين رياحين الطفولة وأشواك الحاضر.

ولا يفوتني القول إنه لا تكاد ُ تخلو صفحة من صفحات الديوان من تكرارٍ أو تساؤل، وكأن في ذلك امتلاك الشاعر لوسيلةٍ نفسية ٍ دفاعية ٍ، تبرز الحقيقة وتخلق الحيرة والدهشة عند المتلقي.

كما أن للتكرار إمكاناتٍ تعبيرية، تتضمن إيقاعات ٍ موسيقية ٍ يمكن أن تلحن، وتكون أغنية ً ذات تأثير ٍنفسي لافت، موضحة ً المعنى بشكل ٍ جليّ:

وتمر ّيا ولدي السنون وزادنا أبدا ًأنين

ها كل ثانيةٍ تمر كأنها ريب المنون

هذه مقدمة لحنية شجيّة تستمطر الدموع، ويتبعها تكرار التساؤل:

كيف السرور وغاب عن عيني ّريحان السنين؟

كيف السرور ووجه إسلام ٍتغيّبه السجون؟

كيف السرور وغاب عنا الروض والماء المعين؟

كيف السرور وذا الشباب يغيب عن هذا العرين؟

كيف السرور ولم تمتعنا بهذا العمر الثمين؟

ومن بدهيات القول إن الشاعر يلتقط ألفاظه البسيطة، التي لا يُحتاج إلى قاموس ٍلفهم معناها وكأنه في هذا الديوان يريد أن يوجه معانيه بأبسط الصور وأكثرها تأثيرا ً إلى عامة الناس، فهو يتجوّل في روضه، فينتقي البلبل والفنن والعبير، ثم ينتقي عناصر دمار هذا الروض في الحال الحزين، وفي الوقت ذاته فهو يتسلح بالأفكار الإسلامية، ويجد ّ ويجتهد في إبرازها، تلك الألفاظ التي تلائم الأسر، كالجهاد في سبيل الله، وتحرير الأقصى، والتضحية لتحرير فلسطين.

أتمنى أن أكون قد سلطت بعض الضوء على عمل من أعمال شاعرنا صالح جرّار وهو الذي أنتج أكثر من ثلاثين عملاً، وآمل أن أكون قد أبرزت بعض المحطات الأسلوبية في نصوصه، تلك المحطات التي لفتت انتباهي، وظننت ُأنها تستحق الدراسة، في الوقت ذاته أقرّ أن إنتاج الشاعر يستحق دراسات ٍ جدّية أكثر، ويستحق الوقوف على عناصر بناء نصوصه من حيث: الألفاظ والمعاني، والدلالات، والموسيقا، والعواطف، والصور الشعرية، والعلاقات بين هذه العناصر جميعها.

*ناقد من فلسطين.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى