الهجوم الغربيّ على معادلة «العهد القويّ» يزداد عنفاً
} د. وفيق إبراهيم
السرعة في تعيين وزير جديد للخارجيّة بديلاً من المستقيل ناصيف حتي، يكشف أن المعادلة السياسية التي ترعى هذا العهد استوعبت أن هناك مشروعاً لنسفها وتدمير آخر خطوط الدفاع عن «العهد القوي».
هذا استنتاج عادي، لكن ربطه بالاستقالة الاساسية لرئيس الحكومة السابق سعد الحريري والإنذار الأميركي – الأوروبي المطالب بالتصدّي للفساد ونصب إصلاحات بنيوية وإصرار البطريرك الماروني على إعلان حياد لبنان وصولاً الى الاستقالة المباغتة لحتي، تشي بوجود سياق متتابع، له واجهة لبنانية تتصل بالإقليم.
بداية فإن معادلة «العهد القوي» هي التي تأسست بتحالف عميق بين التيار الوطني الحر وحزب الله وشملت بالطبع حلفاء الطرفين على الرغم من التناقضات الكبيرة بينهما. فهذه معادلة استراتيجية يختلف المنتمون اليها بالأعمال التكتيكيّة المرتبطة بالمصالح والتعيينات، لكنهم يترابطون في السياسة العامة للبلاد ودور حزب الله في الإقليم.
إن ما جعل معادلة «العهد القوي» شراً مطلقاً في نظر الغرب الاميركي – الاوروبي هو التطور الكبير في إمكانات حزب الله التي اتاحت له تدمير الإرهاب في سورية ولبنان، فضخ في معادلة العهد «عيارات قوة داخلية» أدت الى تهميش كل الفئات الداخلية المرتبطة بالغرب، ولولا بعض الخلافات داخل الإدارات بين التيار الوطني الحر وحركة أمل لكانت إمكانات التمرد الداخلي على هذه المعادلة شبه معدومة.
لكن رئيس المجلس النيابي نبيه بري يعمل على حماية علاقاته السياسية المتنوعة التي تؤدي الى الإجماع عليه رئيساً دائماً للتشريع اللبناني.
بالمقابل يفتح رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل علاقات خاصة بسياساته، هي متناقضة في معظم الأوقات مع حركة أمل واحياناً مع حزب الله، فالرجل يريد الاستئثار بكل الدور المسيحي في لبنان على المستوى الإداري والسياسي، والشعبي بانياً اسساً لانتخابه رئيساً للبلاد بعد والد زوجته الرئيس الحالي ميشال عون.
لكن الغرب الأميركي الأوروبي لم يعُد يقبل بتيار وطني حر غربي الاتجاه والولاء والثقافة يغطي الدور الإقليمي لحزب الله.
هذا ما أغضب السياسة الغربية في هذه المرحلة بالذات التي تتسم دولياً بتصاعد الصراع الصيني – الأميركي وإقليمياً بالقتال العنيف بين الأميركيين والإيرانيين. فلم يعد بالنسبة اليهم، الاختباء والادعاء بغربية الاتجاه وممارسة سياسات معادية لهذا الدور.
فالدولة اللبنانية بالنسبة للغرب، هي فرع منه في الساحل الشرقي للمتوسط يأتمر بأوامره صاغراً ملبياً بعض طلباتها في الحصول على مكرمات وديون. أما اللافت هنا فإن هذا الغرب الذي يتهم الطبقة السياسية بالفساد مؤكداً أنه نتاج تراكم أكثر من ثلاثين سنة من سياسات مشبوهة أفقرت لبنان، هذا الغرب هو الذي كان يرعى تلك المرحلة ويعرف دقائق الأمور والسرقات والفساد، فلماذا سكت عنها في حينها وفجّرها في هذه المرحلة؟
كيف بدأ الهجوم الغربي؟
عندما وصل الوضع الاقتصادي اللبناني الى مرحلة الانهيار أوعز الأميركيون والأوروبيون بإسناد خليجي لسعد الحريري بالاستقالة فاستجاب مولياً الأدبار ورافضاً تشكيل اي حكومة جديدة.
إلا أن معادلة العهد القوي، نجحت بتشكيل حكومة تعمدت اختيار وزرائها من الذين لا لون لهم، لتسهيل اختراقهم للتمنع الغربي، وهذا لم يحدث لأن «الغرب المحترف» ربط بين القروض والتسهيلات بمسألتين: الدعوة الى إصلاح مستحيل عملياً وهذا طلب مقصود للمراوحة، أما المسألة الثانية فهي تطبيق القرار 1701 حسب القراءة الاميركية – الاسرائيلية له. أي سيطرة قوات الطوارئ الدولية على المنطقة الممتدة من حدود لبنان مع فلسطين المحتلة وحتى ضفة نهر الليطاني، وانسحاب حزب الله على مستوى المقاتلين والسلاح الى ما بعدها بالإضافة الى ضرورة قبول الحكومة اللبنانية بخط هوف لحل النزاع حول آبار النفط والغاز مع الكيان الاسرائيلي.
لقد أدى رفض معادلة العهد القوي لهذه المطالب الى تملص صندوق النقد الدولي من وعوده بإنقاذ لبنان اقتصادياً، وذلك وبوضوح نتيجة السيطرة الأميركية عليه.
فكانت الحاجة الاميركية الى وسائل ضغط جديدة، سرعان ما استجاب لها الكاردينال الماروني بشارة الراعي الذي أطلق دعوة لإعلان حياد لبنان من الصراعات الإقليمية والدولية. مثيراً بذلك الرعب في أوصال حكومة لبنان التي تغاضت عن عروض صينية وعراقية وإيرانية وروسية لإعادة تعويم القسم الأكبر من الاقتصاد اللبناني المنهار.
في السياق نفسه وصل الى لبنان وزير الخارجية الفرنسي لودريان حاملاً انذاراً غربياً مفاده ان لبنان وصل الى قاع الانهيار وما عليه إلا الاستجابة للشروط الغربية للسماح بإنقاذه وهي الشروط نفسها المموّهة ظاهراً بإصلاح فساد هم رعاته، والمستبطنة ضرورة القضاء على الدور الإقليمي لحزب الله لكن معادلة «العهد القوي» صمدت ولم تقبض «ترهات» لودريان على محمل الجد لأنها ادركت انه رسول اميركي لتحشيد انصار الفرنكوفونية في لبنان في اطار المشروع المعادي لحزب الله وليس أكثر، علماً ان الأميركيين والأوروبيين عاجزون عن تبني ترشيح جبران باسيل رئيساً مقبلاً للجمهورية لانهم يثيرون بذلك غضب كل أصدقائهم في القوات اللبنانية والكتائب والبطريركية وجنبلاط المرعوب من خسارة جبله الشوفي أمام التيار الوطني الحر، حتى أن آل الحريري لا يوافقون عليه.
ازاء هذا الانسداد امام الاميركيين في تغيير التوازنات في الداخل اللبناني، ذهبوا ناحية تفجير حكومة حسان دياب الذين يحاصرونها اصلاً ويمنعون عنها امكانات الحركة الاقتصادية بالحصار الاقتصادي ومنع الصناديق الدولية ومؤتمرات سيدر من التعاون معها.
لذلك لجأوا الى دفع ناصيف حتي الى الاستقالة بضغط كنسي – فرنسي متقاطع مع إيحاءات أميركية بتأمين دور مستقبلي له.
فكيف يمكن لوزير عيّنه جبران باسيل ان يصل الى هذا المنحى من التمرّد حتى على العهد القوي؟
الواضح أن اختيار حتي من قبل باسيل في إطار حكومة دياب كان لإرضاء النفوذ الاميركي والفرنسي الذي يرتبط بهما الوزير المستقيل. مع أمل باستيعابه باسيلياً وكسبه في معارك السيطرة على القرار المسيحي الداخلي.
يتبين ان الأميركيين يبحثون عن عناوين جديدة لمواصلة ضغوطهم على لبنان، وما بقي هو ان يتحرك العهد القوي وحكومة حسان دياب نحو التعامل الاقتصادي مع الصين التي تبيع ربع صادراتها في الأسواق الأميركية وخمسها في الأسواق الأوروبية. فلماذا يرتدع لبنان عن مسألة تنقذه بقرار من دولة أميركية تبيحها لنفسها؟
فهل يذهب «العهد القوي» نحو البدائل التي تنقذ البلاد من الانهيار؟
هذا يحتاج الى مزيد من الانصهار بين قوى المعادلة التي انتجت حكومة حسان دياب على اساس ان لبنان لا يختار بين معادلة الشرق والغرب الوهمية، بل يذهب نحو آليات تساعده على عدم الانهيار وسقوط الدولة وتفكك الكيان.