حقيقة الصراع في لبنان…
} رامي عبّود
انّ إحدى متلازمات الحرب الاقتصادية التي تخوضها الولايات المتحدة الأميركية على لبنان اليوم هي معركة الرأي العام. وفي الحقيقة، انّ المستهدف الأوّل في هذه الحرب هو الرأي العام اللبناني الذي يُراد منه أن ينقلب على المقاومة التي حقّقت الإنجازات لمجموع هذا الشعب على مرّ السنين الماضية، والتي تخوض الآن غمار الصراع مع الإدارة الأميركية لحماية الثروة النفطية اللبنانية من اللصوصية «الإسرائيلية» وتكريس توازن الرعب القائم مع العدو لمصلحة لبنان.
فالمسؤولون الأميركيون باتوا يعبّرون بالفم الملآن عن مطالبهم بشكل واضح وجلي لا يحتمل الالتباس. من وزير الخارجية الأميركي إلى مساعده لشؤون الشرق الأدنى مروراً بمن تعدّه الإدارة الأميركية خبيراً في شؤون الشرق الأوسط وصولاً الى سفيرة إدارتهم في لبنان، حدّدوا جميعاً أنّ الحصار المفروض وسياسة التجويع ترميان الى إخراج حزب الله من سورية وترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان «الإسرائيلي» كما يحدّده خط هوف، ايّ ضمان أمن «إسرائيل» وتثبيت نهبها لثروات بلدنا.
في موازاة ذلك، تعمل أدوات الإدارة الأميركية في الداخل اللبناني على تشويه حقيقة الصراع من خلال الترويج لسرديّات مختلفة لا تعدو كونها محض أكاذيب منافية لكلّ سياق الصراع ووقائعه. وتقبع على قمة هرم هذه السرديّات رواية أنّ لبنان الآن يدفع ثمن السياسات التي جرّه حزب الله إليها وسلوكه مسلك اللا حياد وكأنّ الإدارة الأميركية حيّدت لبنان عن صراعات المنطقة وحلولها برهة من الزمن، مصوّرين الحصار بمثابة ردّ فعل أميركية على فعل ابتدائي اعتدائي قام به هذا الحزب. بينما في الواقع تقع هذه القراءة على طرف النقيض من سلّم الحقيقة. لأنّ الهجوم على لبنان ومعه المنطقة وشعوبها يرجع إلى ما قبل سنة 1948، أيّ إلى ما قبل تأسيس حزب الله بـ 30 عاماً. ومنذ ذلك الحين، كان ولا يزال هدف المستعمِر الأميركي هو نهب ثروات المنطقة. وما الحفاظ على أمن «إسرائيل» إلا لما تمثّله من قاعدة متقدّمة له في منطقتنا العربية تؤمن له الهدف الأساس. وكلّ نظام أو دولة أو حركة سياسية ومنها حزب الله، وقف ويقف سدّاً منيعاً في وجه الهيمنة الأميركية والغطرسة الصهيونية هو في جوهره ردّ الفعل المشروع للمعتدى عليه وممارسته لحقّه الطبيعي في الدفاع عن شعبه وأرضه وثرواته. لذلك فإنّ الحرب الاقتصادية على لبنان اليوم هي استراتيجية جديدة تنتهجها الإدارة الأميركية بعد فشلها في تحقيق أهدافها عبر استراتيجية الحرب العسكرية المباشرة في عام 2006، من ثمّ محاولة إدخال المقاومة في معركة داخلية مع الشرعية في 5 أيار 2008، وأخيراً حلم استنزافها والقضاء عليها في الحرب السورية. والشاهد الذي يقطع الشك باليقين هو أنّ المطالب الأميركية اليوم هي عينها المطالب في حرب تموز 2006. وهذه الخطة الجديدة تحرز الآن فشلاً بجولتها الأولى الذي تُرجم بفرملة الاندفاعة الأميركية واستفسار سفيرة عوكر من جديد عن المطالب اللبنانية بشأن الثروة النفطية.
وتذهب ملّة أخرى أكثر انبطاحية أمام الأميركي في طروحاتها الى التسويق لسرديّة أخطر وهي أن لا سبيل لنا في مواجهة الولايات المتحدّة الأميركية و»إسرائيل»، وأنهما قدر لا مفرّ منه، وأنّ خلاصنا وازدهار بلدنا وارتفاع مستوى معيشتنا كلّه ينحسر في الخضوع للسياسة الأميركية. وإذا مررنا سريعاً على بعض المعايير الاقتصادية المؤشرة على الأوضاع الاجتماعية الواردة في تقارير البنك الدولي لعينتين من الدول المعادية للسياسة الأميركية كالجمهورية الإسلامية في إيران وكوبا، وعينتين من الدول التي تسير في القافلة التي تقودها الإدارة الأميركية كمصر والأردن، لضحدنا هذه السرديّة. ففي عام 2018، حققت الجمهورية الإسلامية المحاصرة منذ عقود ناتجاً محليّاً إجمالياً للفرد الواحد ما قيمته 5494.16$ وحققت كوبا المحاصرة أيضاً منذ عقود ما قيمته 8821.62$ في حين أنّ مصر حققت ما قيمته 2549.13$ والأردن 4241.79$. وبلغ معدّل البطالة في كلّ من الجمهورية الإسلامية وكوبا 1.4% و1.6% في العام 2019 في مقابل مصر والأردن اللتان بلغ معدّل البطالة فيهما 10.8% و14.7%. والفارق الأنصع يبين في نسبة الفقر التي وصلت 9.8% في الجمهورية الإسلامية في عام 2015 بينما وصل الى 27.8% في مصر. الأرقام التي سلفت تنسف ارتباط الازدهار بالتطبيع والخضوع من أساسها.
هذه الحرب هي عينها حرب تموز 2006 بأهدافها ومراميها وأطرافها ومعنيّيها مع استبدال الأداة العسكرية المباشرة باقتصادية تجويعية. وتصفير الجدوى من الحصار حتى الآن لا بل إضعافه أدوات أميركا في لبنان أكثر من حزب الله والمزيد من الاندفاعة نحو التوجه شرقاً سيدفع الإدارة الأميركية الى أحدٍ من مثنى تغيير استراتجيتها التجويعية أو انهيار اسقفها التفاوضية على غرار انهيارها أمام صمود رجال حزب الله وتسطيرهم أروع ملاحم البطولة في الميدان في حرب تموز 2006.