كلمة صغيرة في حقّ رجل كبير… إلى روح الراحل أمين الذيب
} الحبيب الدائم ربي ـ المغرب
قد تحتاج بعض الأقوال إلى أسيقة جديدة كي تورق فسائلُها وتتبرعم، فهي كالمنامات، لا يتم الوقوف على مراميها إلا بفرط تأويل، ولن يتم ذلك إلا بانبلاج صبح يكون معه الليل قد انجلى. فحين صدَح أبو القاسم الشابي، مثلاً، ذات قريحة: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة» لم يصدق كلامَه أحد، ولا أخذ «حكمته» محمل جد، عدا قلة من الأصفياء الذين إذا داسوا فوق الزبيبة استقطروا حلاوتها. أما وقد خرج الحالُ، بعد سنين عدداً، عن مقتضى حاله، فقد جأرت أصوات الحشود، من ماء الشعر إلى ماء النثر، «إذا الشعب يوماً أراد فلا بد أن يستجيب القدر». لذلك لم تكن لنا أذنٌ ثالثة كي نستشف النبوءة التي سطرها الدكتور أمين الذيب على جداره وهو يتأهب خلسة للرحيل: «الليلة تطابق السائد بين الشاعر والمتلقي»: وكأغلب النبوءات بدت «التدوينة» مبهمة وصماء كشارة نذر. لم يكن، لنا في غمرة الانشغال بجائحة الكوفيد وطاحونة اليومي، ما يكفي من الصفاء كي نقبض على جمرتها إلا بعد فوات الأوان. لربما لاحت لنا مفرغة من معتاد المعنى، والحال أنها كانت به ضاجّة هادرة. لا لشيء إلا لكوننا لا نحب أن ندرك إلا ما نريد. وها قد حاق بنا، بفقد «الأمين»، ما لا نريد. ويا خسارة ما حاق بنا!
صحيح أنه لم يكن من الممكن اعتراض ما سطرته المشيئة، ولو أنه كان بالوسع الإنصات، بحواس متيقظة تلتقط النأمة وأخفى، إلى رجع تلك الكلمة الصغيرة التي
«يسكبها الصباح
أو تهمي بها
الظهيره.
ما بالها تكبر
في الهواء» (كما قال الشاعر المجاطي).
وهل كان بوسعنا ذلك؟
لا شك في أن وهج الكلمة، إياها، تأجج حين «تطابقَ السائدُ بين الشاعر والمتلقي» في لحظة ذهول: أمين الذيب مات !جملة ناجزة كموسى تعاوَرَها الأصدقاء في مشارق الأرض ومغاربها، ذات صبيحة حزينة، مع فارق توقيت توحّدَ في الصدمة. لكن بصيصاً من أمل جعلنا نمني النفس بكون الخبر مجرد «فاك نيوز» دأب بعض الثقلاء على إشاعته في المجرة الزرقاء. وكان لنا من المبررات ما يسمح لنا بأن نركن قليلاً إلى أوهامنا المأمولة: فالرجل كلمني قبل أقل من أسبوع، صوتاً وصورة، وهو في كامل بهائه، وليس في هيأته ما يشير إلى هون. كان قد أسدل لحيته فازداد وسامة على وسامة. ولأنه كان في بيته القروي فقد فرّجني، كطفل، على مغروساته بحبور يليق بالشعراء. تحدثنا في أمور كثيرة، منها «الأدب الوجيز، وكورونا، والمثقف العربي، وبعض الخصوصيات.. ورغم حبوره البادي لم يخف عني خوفه الكبير على لبنان وما يمر به من صعوبات في المرحلة الراهنة».
لن أزعم لنفسي معرفة كبيرة بالفقيد أمين الذيب إلا أنني بغيابه أحس الآن بغصة أليمة وخسارة جسيمة. ذلك أنه كان، بالنسبة إلي، من أولئك الأشخاص الذين ما أن تعرفهم حتى لا تملك إلا أن تنشدّ إليهم وتحبهم. لغزارة ثقافته ودماثة أخلاقه وفيض إنسانيته. ففضلاً عن طبعه المرح والعفوي وحماسه الإبداعي والفكري، كان شديد اللباقة حريصاً على «فن الإيتيكيت». فهو لا يكلمك، على الهاتف، إلا بعد أخذ إذنك بعبارته الرشيقة: «فينا نحكي شوي؟» أو «هل ممكن الاتصال في هذا الوقت؟» ولو أن في الحديث إليه شرفاً لنا. أكيد أنني لم أكن الوحيد الذي كلمه الفقيد قبل رحيله الأخير بأسبوع أو يوم أو ساعة. فقد كان يواظب على الاتصال بأصدقائه، وخاصة أعضاء ملتقى «الأدب الوجيز»، للاطمئنان على أحوالهم وأحوال المشروع الأدبي «التجاوزي» الذي رسم معالمه في السنوات القليلة الأخيرة، بنفاذ بصيرة، دون أن يمهله القدر ليرى رسوخه وامتداده. وهنا لا بد من الاعتراف بأننا لم نكن نسير مع الأستاذ أمين بالوتيرة ذاتها، لا سيما وأنه كان يسبقنا بأميال، ونحن خلفه نمضي في تراخ وكسل. لكأننا كنا نعول عليه في إنجاز «الأشغال الكبرى» في حين قد نتكفل نحن بالرتوش والتفاصيل، ظنا منا أن الوقت كله لنا وأن الزمن ينداح بسخاء، ويقيناً منه أن الحياة «ومضة» قد «يتطابق فيها الشاعر والمتلقي» في أية لحظة.
الآن، والآن فقط، ندرك أن الصدف لا تأتي صدفة. بل هي قوانين مدروسة بإحكام، وإلا فبمَ يمكن تفسير تخصيص ندوة الأدب الوجيز لـ»جمالية البلاغة» في «ومضات أمين الذيب» قبيل انطفائه بقليل؟ هو لم ينطفئ إلا بالقدر الذي تجيزه العبارة وهي تقصر عن توصيف الرحيل. لقد توهج الرجل، في الحضور والغياب، وازداد وميضاً في لحظة حاسمة «تطابق فيها الشاعر والمتلقي» حد الفناء.
رحم الله فقيدنا الكبير.