لبيروت… كلمة وفاء ومحبّة
علي ناصر محمد
والألم يعتصر قلبي، والحزن لا يفارقني، تابعتُ ما حدث في بيروت قبل يومين، وقد هزّ وجداني كما هزّ، من دون شك، الوجدان والضمير الإنساني في كلّ مكان، وكان بمثابة الزلزال الذي لا تقلّ آثاره عن الآثار الناجمة عن الحروب التي مرّت بها بيروت في الماضي.
نترحَّم على أرواح الشهداء ونتمنّى من الله الشفاء العاجل للجرحى، كما نتمنّى للحكومة وللشعب اللبناني التغلب على الآثار الناجمة عن هذه الكارثة، ونناشد اللبنانيين، بكلّ طوائفهم وأطيافهم، أن يتّحدوا ويتضامنوا لبناء لبنان من جديد وغلق النوافذ والأبواب أمام من يريد بلبنان الشرّ والتخلي عن دوره العروبي.
وندعو الأشقاء العرب وكلّ دول وشعوب العالم أن تهبّ لنجدة هذا الشعب العظيم وتقديم كافة أشكال الدعم الاقتصادي والمالي لإعادة إعمار بيروت والمدن اللبنانية الأخرى من الأضرار التي تعرّضت لها بسبب الحروب وبسبب هذه الكارثة التي أدمت قلوبنا جميعاً…
إنّ بيروت لا تستحقّ ما حدث لها، وقد كان جحيماً بحقٍّ، حصد مئات الشهداء وآلاف الجرحى، وخلّف دماراً شاملاً في محيطٍ واسعٍ من المدينة الجميلة، التي ما إن تتعافى من جرح حتى تداهمها جروح، وما إن تنهض من دمار حتى تشتعل فيها نيران، وكأنّ بيروت على موعد دائم مع الحرائق والموت والأحزان، لكنها تعرف كيف تتغلَّب على كلّ ذلك في كلّ مرة وتنهض من بين الأنقاض كطائر الفينييق.
وأنا أتابع مأساة بيروت تداعت ذكريات كثيرة في ذهني، منها أولى زياراتي لبيروت عام 1968، حين أقلعت بنا طائرة شركة «باسكو» العدنية من القاهرة إلى بيروت في الطريق إلى عدن، ودعاني كابتن الطائرة إلى قمرة القيادة لأشاهد بيروت من الجوّ وهي تتلألأ بأضوائها الجميلة، وطلب مني مشاهدة الهبوط في مطار بيروت، لكنّني اعتذرت وانسحبت وعدت إلى مقعدي استعداداً للهبوط على أرض لبنان، جوهرة الشرق وجنة الله على الأرض.
لم أكن أعرف أحداً في هذه المدينة إلا محسن إبراهيم العضو القيادي في حركة القوميين العرب وتذكّرته وأنا أجول في شارع الحمراء لأول مرة، وتذكرتُ أيضاً جورج حبش وهاني الهندي ووديع حداد وأحمد الخطيب وحامد الجبوري، والحكم دروزة وإميل البستاني الذين عرفنا بيروت من خلالهم، كمفكرين ومؤسّسين وداعمين لحركة القوميين العرب.
هذه بيروت إذاً، التي ارتبطنا بها عبر قيادة حركة القوميين العرب وفكرها وتنظيمها والكتب والصحف التي كانت تصدر عنها، ومنها تعلمنا الكثير من دون أن نعرفها أو حتى نتعرَّف إليها إلا من خلال قادة الحركة في نهاية الخمسينيات ومنتصف الستينيات عندما زار جورج حبش وهاني الهندي ومحسن إبراهيم مدينة تعز اليمنية.
بعد 26 عاماً، عام 1992 تحديداً، زرتُ بيروت مجدّداً عبر البر مع كلّ من الدكتور عبد الحافظ نعمان، عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، والسفير محمد عبد الله الشطفة وسفير اليمن في بيروت آنذاك عبد الله ناصر مثنى الذي استقبلنا على الحدود السورية اللبنانية مع عدد من أعضاء السفارة والمرافقين اليمنيين والفلسطينيين.
ها أنا أدخل بيروت وقد أصبح لديّ الكثير من الأصدقاء والمعارف من جميع الأحزاب والشخصيات الذين زاروا عدن، ففي عدن تغيّر كلّ شيء، وكذلك تغيّرت بيروت الجميلة تماماً، والتي تعني الربيع بالفينيقية، كما علمت، وقال عنها الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل: «إنها نافذة زجاجية معشقة وملوّنة في جدار عربي، وإذا خرق هذا الجدار وقع هذا الزجاج الجميل بين الجدار والنافذة، والمشكلة أنّ أصحابها ممكن أن يدمّروها». هذا ما حدث فعلاً، وكانت نتائج الاقتتالات هي الشاهد على ما أصابها. فآثار الحروب والصراعات العربية والإقليمية والدولية واضحة على ملامحها الخارجية، وحتى على تشكيلها الاجتماعي، وقد سبّبت الدمار الذي لحق بها، فكلّ شيء تحطّم ودُمّر العمران والإنسان وبعض مبانيها وأحيائها عبارة عن أطلال وآثار الرصاص والقذائف بادية على جدرانها.
كلّ ذلك، إضافة الى ما سبّبه الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان عام 1982 وكذلك حرب تموز 2006 من تدمير وتخريب للبنية التحتية، وكلّ ذلك بسبب موقع لبنان وموقفه من القضايا العربية وفي المقدمة القضية الفلسطينية.
*الرئيس اليمني الأسبق