الإسلام السمح ودعوته لكلمة سواء باحترام حق العبادة بريء من الهمجية التركية الإرهابية..
هذه قصّتي مع مَن يحاول انتزاع «آيا صوفيا» من تاريخها
جودي يعقوب
لآيا صوفيا رمزية تاريخية ودينية وسياسية.. وهي تحفة معمارية فريدة ثابتة لا تتغير، فهي من أهم الآثار الفنيّة وأشهر المعالم السياحية في العالم، وصوفيا هي الإملاء الصوتي اللاتيني للكلمة اليونانية «الحكمة»، حيث الاسم الكامل (باللغة اليونانيَّة: Ναός της Αγίας του Θεού Σοφίας) أي «ضريح حكمة الله المقدّسة».
بنيت كاتدرائية آيا صوفيا في عام 532 م. بأمر من الإمبراطور البيزنطي جستنيان باعتبارها الكنيسة المركزيّة للقسطنطينيّة، واستغرق بناؤها حوالي خمس سنوات، حيث افتُتحت رسمياً عام 537م، لتخرج لنا بهذا الشكل الفريد، وكانت الكاتدرائيَّة المقرّ الأسقفيّ لبطريرك القسطنطينيّة المسكونيّ، وظلّت أكبر كاتدرائية مسيحية في العالم منذ ما يقرب من ألف عام، لكنها شهدت تحوّلات تاريخيّة كبيرة تزامنت مع التحولات السياسية والدينية في تركيا، فمن كاتدرائية عظيمة في قسطنطينية إلى مسجد في الأستانة، ثم إلى متحف لأكثر من ثمانية عقود. وها هي اليوم تعود إلى واجهة الحدث، من بوابة تحويلها إلى مسجد، بفرمان عثماني أرعن.
بعد قرار المحكمة العليا في تركيا بتحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد كما كان في زمن السلطان العثماني محمد الفاتح، وقّع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على مرسوم تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، معلناً فتحه أمام المسلمين لأداء الصلاة، مستنداً إلى حق بلاده السيادي، معتبراً أن أي انتقاد لهذه الخطوة سوف يكون تجاوزاً على سيادتها.
وبعيداً عن التجاوزات السيادية، وبعيداً عن مخالفات القيم الإسلامية التي تحترم حرية الاعتقاد وترفض أي اعتداء على الآخر، وبعد كل ما جاء من قرارات حول التحوّل والتغيير الذي طال آيا صوفيا، رأيت من واجبي أن أكتب وأشارك ما حدث معي في إحدى زياراتي لآيا صوفيا.
ذات يوم، قصدت متحف آيا صوفيا برفقة عائلة أرمنيّة استضافتني خلال إحدى زياراتي لتركيا، وبينما كنتُ أتأمل إحدى الأيقونات قمت بالفطرة برسم إشارة الصليب على وجهي مثلما تعوّدت منذ نعومتي أظفاري عندما أدخل إلى أي كنيسة أو عند وقوفي أمام أي رمز دينيّ.. لكن سرعان ما تفاجأت بأحد الأشخاص المولجين بأمن المكان ينهرني بأسلوب فظ ويدعوني إلى «احترام قدسية المكان».
عبارة أشبه بصدمة كهربائيّة سرت بجسدي وشلت عقلي عن التفكير وأنا أنظر إليه بدهشة واستغراب من هولها، للحظة اعتقدت أنني لم أفهم كلامه بشكل جيد، لأن ما قمت به بالنسبة لي هو المعنى الحقيقي للإجلال والتقدير والاحترام وخاصة لقدسية أي مكان، فطلبت منه أن يعيد عليّ ما قاله متمنية أن أكون قد أسأت الفهم، ولكن للأسف عاد وكرر كلامه بطريقة كريهة وقاسية أكثر مؤكداً عليه وقائلاً بالحرف الواحد: «إما أن تحترمي حرمة هذا المكان الذي أنت فيه، أو سأضطر لأن أخرجك من هنا»!!
في تلك اللحظة شعرت بأنني في فلسطين المحتلة، وأن جندياً صهيونياً إرهابياً غازياً ينهرني، تطبيقاً لسياسة كيانه الغاصب الذي عاث قتلاً بالفلسطينيين وشرّدهم وهجّرهم من أرض فلسطين. وهذا الشعور لم يفارقني يوماً، لأنه إذا قارنا السيناريوهات العثمانية والصهيونية على مر التاريخ فسنرى أنهما وجهان لارهاب استعماري واحد، يستبيح الدماء والأملاك والمقدسات.
لقد فتح هذا الجواب أمامي أبواب جراح تأبى أن تندمل وذكريات أليمة من صفحات مظلمة سوداويّة من الحقبة العثمانية الهمجية، جعلتني أتسمّر في مكاني بينما كان عقلي يرفض تصديق ما سمعته، فقلت له على أمل أن يكون ما كان قد سمعته هو مجرد سوء فهم للغته الإنكليزية الفقيرة كأخلاقه: «هل من الممكن أن تشرح لي ما الذي قمت به والذي أدّى إلى تدنيس حرمة المكان؟»، لا أعرف ما الذي كنت أتوقعه من حفيد بني عثمان عندما تفوّه لساني بهذا الكلام، أن يهبط الاحترام عليه فجأة مثلاً!!! فأمثاله لا يقدر الزمن على محو ما حملوه من جينات إجراميّة على مرّ العصور، ولكن ربما كنت ما زلتُ تحت تأثير الصدمة، بينما هو لم يبق على كلامه فحسب، بل أكمل وبكل وقاحة مضيفاً أن ما قمت به من رمز صليبي يجرح مشاعر الزائرين ويدنس قدسية المكان.
فجأة مرّ شريط المجازر العثمانيّة التي استهدفت إبادة الأرمن ومذابح سيفو ضد الأشوريين والسريان، ذلك الشريط الذي رسمتُ أحداثه في مخيلتي منذ طفولتي بما كنت أسمعه من جدتي حول وحشيّة العصملي وشركائه وما اقترفوه من جرائم..، ولم تسعفني نفسي من أن أتمالك السيطرة على أعصابي وأخبرته بصوت عالٍ عن تاريخه الإجرامي ما هو؟ ومَن نحن؟
قلتُ له بنبرة تحمل معها كل السخط والغضب: هذه كنيسة مقدّسة وهي الآن متحف للجميع وأنتم مجرمون وقد دنستم العالم بإرهابكم،.. ولم أتوقف عن الكلام إلا بعد أن وجدت نفسي خارج المتحف أنا وكل مَن كان معي. لقد اخرجونا من «آيا صوفيا» فقط لأنني رسمت إشارة الصليب على وجهي من شدة إعجابي بعظمة المكان وأيقوناته. المهم أنهم اكتفوا بطردنا فقط، والسبب هو أن من كانوا برفقتي كانوا يحدثونني باللغة الأرمنيّة، واعتقد جازمة أن اللغة الأرمنية بنبرتها ترعب العثمانيين، وهذا بحد ذاته اعتراف منهم بخوفهم ممن حاولوا إبادتهم وتصفيتهم عرقياً والاستيلاء على أملاكهم من دون أي حق.
اليوم، وبمجرد أن يقوم هؤلاء الهمج بانتزاع آيا صوفيا من تاريخها، وما تمثله من رمزية، تنكشف أمام العالم حقيقة أن العثمانيين الجدد، هم من يقف خلف تنظيم «داعش» وسائر التنظيمات الإرهابية الذين دمروا الكنائس والمقامات المسيحية والمحمدية، وأن العثمانيين الجدد وصنيعتهم لا يمتون إلى الاسلام بصلة، بل هم ارهابيون ينقادون بغريزة الكراهية والحقد ومعاداة الانسانية.
إن ما قام به السلطان العثماني اردوغان، هو ارهاب موصوف، يخالف الرسالة الاسلامية، ويناقض القانون الدولي. فمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونيسكو» كانت قد أدرجت متحف «آيا صوفيا» على لائحة التراث العالمي في ثمانينيات القرن المنصرم، ليصبح واحداً من أهم الوجهات السياحيّة.
ما قام به اردوغان ونظامه الإرهابي، بما خصّ «آيا صوفيا»، لا يختلف عن قيام النظام الارهابي الصهيوني باحتلال ارض فلسطين، ولا يختلف عن اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني الغاصب، وبسيادة العدو على مرتفعات الجولان المحتلة.
جرائم العثمانيين وفظائعهم على مدى أربعة قرون من بطشهم واحتلالهم، تعود إلى الذاكرة، مع هذه الجريمة الفظيعة التي استهدفت آيا صوفيا، هذا الأثر الإنساني العظيم الذي يُعدّ من الأوابد التاريخية الحضارية والانسانية.