«بيروت»… قصيدة لمحمود درويش
بعد ما عانته بيــروت منــذ يومين جراء الانفجــار نعــرض هنا أجــمل القصائد التي كُتبت عنها في أقــلام الشعراء، واخترنا قصيدة «بيروت» للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، التى نقرأ جزءاً منها:
تُفَّاحةٌ للبحر، نرجسةٌ الرخام
فراشةٌ حجريّةٌ بيروتُ . شكلُ الروح فى المرآة
وَصْفُ المرأة الأولى، ورائحة الغمام
بيروتُ من تَعَبٍ ومن ذَهَبٍ، وأندلس وشام
فضَّةٌ، زَبَدٌ، وصايا الأرض فى ريش الحمام
وفاةُ سنبلة، تشرُّدُ نجمةٍ بينى وبين حبيبتى بيروتُ
لَم أسمع دمى من قبلُ ينطقُ باسم عاشقةٍ تنام على دمى… وتنامُ…
مِنْ مَطَرٍ على البحر اكتشفنا الاسم، من طعم الخريف وبرتقال القادمين من الجنوب، كأنَّنا أسلافُنا نأتي إلى بيروتَ كي نأتي إلى بيروتَ…
من مَطَرٍ بَنَيْنا كوخنا، والرِيحُ لا تجري فلا نجري، كأنَّ الريح مسمارٌ على الصلصال، تحفر قبونا فننام مثل النمل فى القبو الصغير.
كأننا كنا نُغَنِّى خلسةً :
بيروتُ خيمتُنا
بيروتُ نَجْمتُنا
سبايا نحن فى الزمان الرخو
أَسْلَمَنا الغزاةُ إلى أهالينا
فما كدنا نعضُّ الأرضَ حتى انقضَّ حامينا
على الأعراس والذكرى فوزَّعنا أغانينا على الحُرّاس
مِنْ ملكٍ على عرشٍ
إلى ملك على نعشٍ
سبايا نحن فى هذا الزمان الرخو
لَمْ نعثر على شَبَهٍ نهائي سوى دمنا
ولم نعثر على ما يجعلُ السلطانَ شعبياً
ولم نعثر على ما يجعل السَّجانَ وديّا
ولم نعثر على شيء يَدُلُّ على هويتنا
سوى دمنا الذى يتسلَّق الجدران….
مرفأ بيروت
خلسةً: نُنشدُ
بيروتُ خيمتُنا
بيروتُ نَجْمتُنا
ونافذةٌ تطلٌّ على رصاص البحرِ
يسرقنا جميعاً شارعٌ ومُوَشَّحٌ
بيروتُ شكل الظلِّ
أجملُ من قصيدتها وأسهلُ من كلام الناس
تُغرينا بألف بدايةٍ مفتوحة وبأبجدياتٍ جديدة:
بيروتُ خيمتُنا الوحيدة
بيروتُ نجمتُنا الوحيدة
هل تمدَّدنا على صفصافها لنقيس أجساداً محاها البحر عن أجسادنا جئنا إلى بيروت من أسمائنا الأولى
نفتِّشُ عن نهايات الجنوب وعن وعاء القلبِ…
سال القلبُ سال…
وهل تمدَّدنا على الأَطلال كى نَزِنَ الشمال بقامة الأغلال؟
مال الظلِّ مال على، كسَّرنى وبعثرني
وطال الظلُّ طال….
ليَسْرُوَ الشجرُ الذى يسرو ليحملنا من الأعناق
عنقوداً من القتلى بلا سببِ…
وجئنا من بلادٍ لا بلاد لها
وجئنا من يد الفصحى ومن تَعبِ….
خرابٌ هذه الأرض التي تمتدُّ من قصر الأمير إلى زنازننا
ومن أحلامنا الأولى إلى… حطبِ
فأعطيــنا جــداراً واحــداً لنصـيح يــا بيــروتُ !
أعطينا جداراً كي نرى أْفقاً ونافذةً من اللهبِ
وأعطينا جداراً كى نُعلِّق فوقه سدُومَ
التي انقسمت إلى عشرين مملكةً
لبيع النفط …. والعربي
واعطينا جداراً واحداً
لتصيح فى شبه الجزيرةْ
بيروت خيمتُنا الأخيرةْ
بيروت نجمتُنا الأخيرةْ
أُفُقٌ رصاصي تناثر فى الأُفق
طُرُقٌ من الصدف المجوَّف… لا طُرُقْ
ومن المحيط إلى الجحيم
من الجحيم إلى الخليج
ومن اليمين إلى اليمين إلى الوسطْ
شاهدتُ مشنقةً بحبلٍ
واحدٍ
من أجل مليونى عُنُقْ !
بيروتُ! من أين الطريقُ إلى نوافذ قُرْطُبهْ
أنا لا أُهاجرُ مَرتَّين
ولا أُحبُّك مرتين
لكنِّي أُحوِّمُ حول أحلامي
وأدعو الأرض جمجمةً لروحى المتعبهْ
وأُريد أن أمشي
لأمشي
ثم أسقط فى الطريق
إلى نوافذ قرطبهْ
بيروتُ شاهدةٌ على قلبي
وأرحلُ عن شوارعها وعنِّي
عالقاً بقصيدةٍ لا تنتهي
وأقولُ: ناري لا تموتُ…
على البنايات الحمامُ
على بقاياها السلام…
أطوي المدينةَ مثلما أطوي الكتابْ
وأحملُ الأرضَ الصغيرةَ مثل كيسٍ من سحابْ
أصحو وأبحثُ فى ملابس جُثّتى عنّي
فنضحك: نحن ما زلنا على قيد الحياةِ
وسائرِ الحُكَّام
شكراً للجريدة لم تقل إني سقطتُ هناك سهواً…
أفتَحُ الطُرُقَ الصغيرة للهواء وخطوتي والأصدقاءِ العابرين
وتاجر الخبز الخبيث , وصورةِ البحر الجديدة
شكراً لبيروت الخراب…
شكراً لبيروت الخراب…
تكسَّرتْ روحي، سأرمي جُثّتي لتصيبني الغزواتُ ثانيةً
ويُسْلِمَني الغزاةُ إلى القصيدة…
أحمل اللغة المطيعة كالسحابةِ
فوق أرصفة القراءة والكتابةِ:
(إن هذا البحر يترك عندنا آذانه وعيونه)
ويعود نحو البحر بحرياً
….وأحمل أرض كنعانَ التي اختلف الغزاةُ على مقابرها
وما اختلف الرواةُ على الذي اختلف الغزاةُ عليهِ
من حجرٍ ستنشأ دولةُ الغيتو
ومن حجرٍ سننشئ دولةَ العُشَّاقِ
أرتجلُ الوداع
وتغرقُ المدنُ الصغيرةُ فى عباراتٍ مشابهة
وينمو الجرحُ فوق الرمح أو يتناوبان عليَّ
حتى ينتهي هذا النشيد….
وأهبط الَدَرجَ الذي لا ينتهي بالقبو والأعراس
أصعدُ مرةً أُخرى على الدرج الذي لا ينتهي بقصيدةٍ…
أهذي قليلاً كي يكون الصحوُ والجلاّدُ…
أصرخُ: أيها الميلادُ عَذَّبْني لأصرخ أيها الميلادُ…
منْ أجل التداعي أمتطي درب الشآم
لعلَّ لي رؤيا
وأخجلُ من صدى الأجراس وهو يجيئنى صدَأَ
وأَصرخُ فى أثينا: كيف تنهارين فينا؟
ثُمَّ أهمسُ في خيام البدو:
وجهي ليس حنطيَّا تماماً والعروقُ مليئةٌ بالقمح…
أَسأل آخر الإسلام :
هل فى البدء كان النفطُ
أم فى البدء كان السخط؟
أهذي، رُبَّما أبدو غريباً عن بني قومي
فقد يفرنقعُ الشعراءُ عن لغتي قليلاً
كي أُنظِّفها من الماضي ومنهم…
لم أجد جدوى من الكلمات إلا رغبة الكلمات
في تغيير صاحبها..