برداً ويماماً… يا بيروت!
} طلال مرتضى*
مَن علّمكم صهر زجاج روحي، مَن سمح لكم أن تهدّوا نافذتي الوحيدة المشرّعة التي ألقى الشمس من خلالها والممتدة نحو الزرقة اللامتناهية، حيث يمكن الله وراء سرمديّة حنوه علينا نحن معذبي هذه الأرض..
من أجاز لكم بأن تكسروا هدوء غفوة معبودتي الغارقة في سكون رتابتها والمستكينة على أوجاع كل من مرّوا تحت ظلال أجنحتها الوارفة الحنان؟
أنا أسامحكم في كل ما فعلتم، وهي كذلك. ولأنها تعرفكم وتحفظ نياتكم عن ظهر سكتت، تمتمت في سرّها: «بيبقوا ولادي وأحبابي.. معليش».
وقتها كانت دمعتها المحبوسة تتفلت للهرب نحو اللاعودة إلى مرّبعات الندم.. أنا لا أبكي وجعها ولا وجعكم.. ولا أتألّم تزلّفاً لأنكم كسرتم أجنحتها البيضاء.
أبداً أنا أبكي عليَّ، عليَّ أنا.. أنا الإنسان المسكون بتفاصيلها..
أبكي طفولتي وذكرياتي التي غيّبوها عمداً ومسحوا ذاكرتها تحت ركام الحقد.
أنا من دونها بلا ذاكرة.. أنا من دونها بلا قلب.. أنا من دونها بلا أصابع.. أنا من دونها بلا حبر..
ذاكرتي كلها من ألف نشأتها إلى نون نسوتها.. بيروت.
قلبي وأول نبض له حيث عرف سر الخفق والنبض مع أول عناق.. بيروت.
أصابعي هذه التي تهجّت ملح الكلام وتعلمت لهج اليمام ب.. بيروت.
هذا الحبر الشقيّ.. الشجيّ.. النجيّ.. الرهيف.. العفيف.. الشفيف.. حليب روحي رضعته من أضرع.. بيروت.
من ذا الذي تجرأ على كسر قلب الله؟
أوليست بيروت قلبه، الله الذي تعرفونه في قلب
ناسه، وناسه سائرون الآن في شوارع بيروت..
وحده كان عابر سبيلها يسمع عن غير قصد كل ألسنة الله تتحدّث في شوارعها.. ليقل أحدكم أنت على خطأ يا طلال، أليست في بيروت وحدها دوننا عن سائر بلاد الله، ينام أعداؤها في أسرتها آمنين1؟
يا الله.. كم هذا مؤلم حين أردد تلك الجملة: ينام أعداؤها في أسرتها آمنين!
أنا لست بصدد مناددة أحد اليوم، في قلبي ما يكفي من مدن وقبائل الحزن، أنا الآن في قمة ضياعي، أنا الآن بلا ذاكرة.. بلا قلب.. بلا حبر! لست أحاسبكم عن تلك الحجارة التي قمتم ببعثرتها قصداً، لتثبتوا لله وأولياء أموركم بأنكم فحول واستطعتم فض عذريتها بتلذذ.
لستُ بصدد سؤالكم عم اقترفت أيديكم في كل الأرجاء، لأنني متيقن بأنكم استطعتم تلوين سماء بيروت بالأسود السام، لتقنعوا العالم كله، بأنكم أشهر من وصل إلى السماء ولوّن وجهها بالقبح المنعكس من وجوهكم، يا فناني الحزن أنتم.
اعترف بأنكم سجلتم حضوركم على رأس قائمة نْجس وليس «دنيس» وهنا المفارقة..
بعثروا ما شئتم من أشلاء بيروت، دمّروا ما استطعتم من أطرافها، غربها وشرقها..
يمكنكم موارة كل ضغائنكم في بحرها..
صدر بحرها يتسع لكل هذا الحقد الدفين، أرأيتم كيف بقي جاثماً صامتاً على حزنه، بلع ملح غبنه على مضض، هو كذلك يحفظ في لججه الكثير.. الكثير من أسراركم، ولمَ لا.. وهو كفّ بيروت البيضاء الممتدة نحو ملكوت الله البعيد..
هل سلمت أصابعه من البتر عندما تطاولتم عليها لمنافعكم، ألم يبتلع كل قذارتكم التي لا تتوانون عن دلقها في أوردته، ألم تحملوا على ظهره كل سموم العالم لتطعموها لأولاد لبنان؟!..
ومع كل هذا وحين تقعون في خانة «اليك». كان أول من يفتح لكم صدر عبابه لتهربوا من دون أن توفوا ديونكم للمدينة الثكلى..
كل ما تقدّم لا يعني لي شيئاً، لكم بيروتكم ولي بيروتي.
أعيدوا لي من جديد ترتيب خطواتي في «وادي أبي جميل» إلى براءتها الأولى.. فشارع «ستاركو» لم يزل يحتفظ بها على الرغم من دفنها مع الركّام عند لسان البحر في «مير الحصن» حيث صارت خطواتي البريئة بعد ذلك «سوليديراً» شاهقاً.
حينها، كنت طفلاً من تراب وحجارة مبعثرة عند خط المحاور، لكن، لي طعم، ولدي حسّ، وعلى الرغم من تلوّث البيئة إلا أن الهواء الذي كنت أستنشقه ـ وقتذاك ـ كانت رائحته زكية..
سلبوا، قسراً، مني حسّي، وطعمي وحاسة شمي عندما أحالوا حواسي كلها لناطحات سحاب زجاجية، يتداور على مسح ذكرياتي في كل لحظة أبناء العمالة الآسيوية.. الزناة.. لم يسمحوا لعارف في المكان (ابن بلد) أن ينظف أو يمسح زجاج المكان، لأنهم يعرفون بأن ابن البلد يلتقط الحس عن ظهر غياب. أنا بصراحة.. لا أحب «السناك»، لأنني ومذ طرد «أبو عصام» ابن بلدة «هونين» المهجر وأجبر على إخلاء الكراج الذي حوله فرناً لخبز المناقيش. لم أتذوّق منقوشة صعتر كالتي كان يخبزها لنا على نار قلبه.. ولم أقرأ مجلة أو صحيفة أو أحل كلماتها المتقاطعة كالتي كان يخبئها لي عامل الفرن ممن كانوا يلفون لنا بها المناقيش.
من فضلكم..
دمّروا ما شئتم.. وارموا في البحر ما أردتم من أسراركم.. لكن أتركوا لي قلبي الأول وذكرياته، أتركوا لي كل اللحظات التي كنت أخلو بها إلى طفولتي ظل جدار «كنيسة الكبوشية» وسهراتي المتأخرة أمام نصب «عبد الناصر» في المنارة عند «فان أبو العبد أكسبريس بيروت»، حيث كانت أم كلثوم تصدح «لسه فاكر» إلى مطالع النور الذي ينبلج من وراء مسلة المنارة، قبل أن تسلم قياد الحكاية لسيدة الصباح الأزلية فيروز «سلم لي عليه».
من فضلكم..
خذوا كل الأماكن.. فقط اتركوا لي كرسيا وحيدا في مقهى «الكوستا»، أريد الكرسي الذي يتمترس عند زاوية المقهى، هناك حيث أستطيع رصد زاويا الشارع المتقاطع، لست أدري إن طل على حين فجأة «عماد بدران» من شرفة «ليال بيروت الثقافية» ليقول بابتسامته المعتادة: ليك.. الليلة هون.
أو أجدني وجهاً لوجه مع «اسكندر حبش» وهو يكرج بخطواته من نزلة «السفير» المرحومة وهو يتأبط عدد «السفير» اليوم الذي غالباً ما تطالني مكرمته.
بالتأكيد لن يفوتني ذلك الرجل الذي يهش بعكازه على قطيع المتثاقفين الذين يلتفون حول طاولته لنيل المكارم، لم أكن أعرف الرجل وقتذاك إلى أن همس بأذني مثتاقف مستفيد بقوله: «هيدا الأستاذ بلال شرارة».
دمّروا أيّها الجبناء ما شئتم من شوارع المدينة العذراء، فقط اتركوا لي الطريق المؤدي نحو مقهى «الروضة»، هناك حيث كان لفيف الرفاق يلتف حول حكايات وقصص «عصام العبد الله» والتي يفتتحها بـ «كمين» وينهيها بالإمام علي.
وحده كان يصل متأخراً كل يوم سبت «عباس بيضون» والذي يحضر وتحضر معه قهوته معه.
برداً ويماماً يا بيروت.. كف الله البيضاء.. قلب الحكايات الشائقة.. يا روح البنفسج والياسمين.. لن يطمسوا عشقك وحبرك مهما كبر حقدهم وزاد غلهم.
*كاتب عربي/ فيينا.