ماذا بعد…؟
معن عدنان الأسعد _
أكتب هذه المقالة و»البورصة» بلغت حتى الآن 135 شهيداً و5200 جريح وعشرات المفقودين وحوالي 300 ألف مهجّر مشرّد…
سأخرج من حالة الغضب الجنونيّ الذي يهزّ كياني وسأحاول قدر المستطاع أن أكون موضوعياً، تحليلياً،
واقعياً…
ماذا حصل؟ وكيف؟ هناك احتمالان، لا ثالث لهما: إما إهمال وفساد ورعونة أدّت الى الكارثة، وإما عمل تخريبيّ في العنبر رقم 12 سواء أكان داخلياً ام خارجياً…
ويمكن إضافة فرضية ثالثة تجمع ما بين الإثنين… فإذا اعتمدنا الفرضية الأولى وهي الفساد، ستكون الأقرب إلى المنطق والعقل، لأنه ممكن جداً حجز وتخزين هذه المواد المرعبة والقاتلة والمدمّرة لمدة طويلة من دون حسيب أو رقيب في ظلّ حالة الفساد المستشري والغطاء السياسي والسبات القضائي…
وطبيعي جداً أن يحصل ما حصل، من تداعيات كارثية،
وفي هذه الحالة فإنّ الحديث عن لجنة تحقيق لتحديد المسؤوليات ومعاقبة المجرمين لن يكون إلا خطابات رنانة وشعراً ورثاء ولجاناً تدفن في الأدراج، والسبب أنّ المسؤول هم معظم الطبقة السياسية الحاكمة المتداخلة في مصالحها التي تتقاسم الجبنة على قاعدة “ع السكين يا بطيخ”، إنْ لم نقل جميعها.
السؤال البديهي: كيف يمكن محاسبة وملاحقة من يتلطى خلف حصانته الرئاسية والنيابية والوزارية والقضائية والطائفية المذهبية؟ خاصة أنّ مفاصل السلطة القضائية هي بيد أمراء الطوائف والمذاهب، الأمر الذي أدّى الى سقوط القضاء في وحول الطائفية والمذهبية والاستزلام لأمراء الفساد والمحاصصة.
إزاء هذا الواقع المرّ والخطير، ليس مطلوباً لجنة تحقيق من دون صلاحيات، وقرارها ليس ملكاً لها، ودورها يقتصر على تنفيذ الأوامر من دون جدال، بل المطلوب أولاً وأخيراً وفوراً إقرار قوانين رفع الحصانات واستعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة والإثراء غير المشروع ورفع السرية المصرفية ومحاسبة ومعاقبة كلّ لصّ فاسد مفسد بغضّ النظر عن انتمائه السياسي أو الديني أو المذهبي، أو الطائفي.
عندها فقط سنرى، عصابة اللصوص الوقحة والفاسدة والمرتهنة والظالمة التي تتحكم بالوطن والشعب منذ ثلاثة عقود في السجن.
ولكن هل يتحقق هذا الحلم ويتمّ زجّ الفاسدين وناهبي المال العام والخاص خلف القضبان؟
لا أعتقد ذلك نظراً لوقاحة المسؤولين الحاليين ورؤساء الحكومات والوزراء السابقين والكتل النيابية والإدارات الرسمية، وبالذات الجمارك التي بكلّ فجور ووقاحة تبرّر ما حصل وتبرّئ نفسها وتحاول غسل يديها مما اقترفته بحق شعب ومدينة وتاريخ وحضارة !
وحتى يكتمل “النقل بالزعرور” أصدر مجلس القضاء الأعلى الغائب المغيّب بيانه الذي أقلّ ما يُقال فيه إنه معيب.
الحقيقة المؤلمة هي أنّ انفجار بيروت ليس هو الكارثة فقط، بل الجريمة التي ارتكبتها عصابة اللصوص الوقحة لمدة ثلاثة عقود بحق الوطن والمواطن، فأصبحت المعادلة بكلّ بساطة هي بضع عشرات من السياسيين مقابل ستة ملايين مواطن، ومَن سيبقى في البلد نحن أم هم؟
بالطبع الشعب اللبناني باق، باق، وعليهم هم أن يفلوا أو يُعفنوا في السجن.
وإذا ما انتقلنا الى الفرضية الثانية، أيّ العمل التخريبي أو الإرهابي هو من تسبّب بالانفجار التدميري الدموي إنْ كان
من الداخل أو من الخارج، فهذا يأخذنا الى الشقّ الاستراتيجي والذي يعني بأنّ الأميركي والصهيوني قد استغلا فساد السلطة السياسية اللبنانية واستخدما التخزين الطويل غير المبرّر لهذه المواد المتفجّرة كي يتمّ قصفها ثمّ تحمّل الحكومة الحالية التي يضعها في خانة محور المقاومة المسؤولية تمهيداً لإسقاطها شعبياً ودولياً.
هنا، علينا الوقوف عند الحقائق والثوابت الدامغة التالية:
ـ الحصار الأميركي ومطالبة الحكومة بتنفيذ صفقة القرن المشبوهة والانضمام لبنود “قانون قيصر”، وإلا خنق لبنان اقتصادياً ومالياً ومنع أي كان من مساعدته.
ـ تحريك بعض من في الداخل للمطالبة بتسليم سلاح المقاومة ومحاصرة سورية والهدنة مع العدو الصهيوني تحت شعار الطلب من المجتمع الدولي تطبيق القرارات 1559 و1680 و1701 وصولاً الى رفع شعار “الحياد” من قبل غبطة البطريرك الراعي وطلب القوات المتعددة الجنسيات (طبعاً البطريرك قد يكون معذوراً لأنّ الذهاب شرقاً يعني دخول الدور الروسي بقوة على الساحة اللبنانية، وهو يعتقد أنّ ذلك يعطي دوراً أكبر وأكثر تأثيراً للكنيسة الأرثوذكسية على حساب الكنيسة المارونية).
ـ محاولة إقالة الحكومة خمس مرات آخرها كان منذ حوالي آخر الشهر بتحضير 6 وزراء استقالاتهم وإرسال نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي موفداً إلى الرئيس سعد الحريري، ومن ثم بدء التحضير لإعلان قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بموضوع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي كان مقرّراً في 7 آب وتمّ تأجيله الى 18 منه بعد انفجار المرفأ، وبالتزامن مع الشرط الأميركي بتوسيع مهام وصلاحيات وعتاد وعديد قوات “اليونيفيل” تحت طائلة عدم تمويلها وسحبها.
ومن ثم تهديد وزير الخارجية الفرنسي لو دريان لرئيس مجلس الوزراء اللبناني حسان دياب والصدمة التي أصابته من النبرة العالية والتعاطي بها معه من قبل الرئيس دياب،
ومن ثم إقالة (وليس استقالة) وزير الخارجية ناصيف حتي بطلب أميركي فرنسي تمهيداً لصدور قرار المحكمة الدولية تحت الفصل السابع والتحضير لاستقالات أخرى، والرسالة الواضحة من المحور المقابل الذي أفشل مخطط إقالة الحكومة عبر تطيير النصاب بالسرعة القياسية غير المسبوقة بتعيين شربل وهبة وزيراً للخارجية مكانه…
ـ إعلان الإقفال العام وعدم التجوّل من 6 آب وحتى 11 منه لإجهاض مفاعيل قرار المحكمة الدولية على الأرض في 7 آب (وليس بسبب كورونا)… وتمّ إلغاؤه بعد الانفجار المهول.
إذن، بات واضحاً انّ الأميركي يملك مفاصل السلطة في لبنان ومحور المقاومة يملك الأرض.
هذا يعني استحالة تنفيذ انقلاب أميركي سياسياً، لأنّ ذلك يعني سقوط لبنان في المحور الروسي الصيني (كما قال جيفري فيلتمان في الكونغرس في 20/11/2019)… وفي توقيت غريب عجيب شكلاً ومضموناً حصل الانفجار الزلزال المروّع في مرفأ بيروت، وكان الرئيس الأميركي
ترامب قد صرّح سابقاً بأنّ المرفأ يُستخدم كمخزن لسلاح المقاومة وانّ رئيس حكومة العدو الصهيوني نتنياهو كان قد صرّح أيضاً بأنّ العنبر رقم 3 يُستخدم كمخزن للأسلحة الدقيقة للمقاومة وأعلن بعد الانفجار مباشرة بأنه يعتقد بأنّ الحدث هو أمني، وقناة “الحدث” السعودية أعلنت عن قصف مخزن سلاح للمقاومة في مرفأ بيروت.
ـ جاءت استقالة النائب مروان حمادة ومطالبته بلجنة تحقيق دولية! (ما أشبه اليوم بالأمس)! والحديث عن استقالات نيابية أخرى مرتقبة، وبيان رؤساء الحكومات السابقين (والذي تلاه فؤاد السنيورة! وأيضاً ما أشبه اليوم بالأمس) بالمطالبة أيضاً بلجنة تحقيق دولية او عربية، وتوّجت بزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السريعة المفاجئة الى لبنان ولقائه ما يمكن تسميته بالمسؤولين والسياسيين الذين كانوا بمعظمهم أمامه كالتلاميذ في المرحلة الابتدائية وطلب منهم الالتزام بشروط المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي، ومن أهمّها إقرار الإصلاحات وتنفيذها وإلا لا مساعدات ولا شيكات على بياض ولا ثقة بالطبقة السياسية، وتقديم المساعدات الحالية ستسلم مباشرة للشعب وليس للسلطة التي فقدت الأهلية والصدقية منذ سنوات. وحذرهم من عدم الالتزام وتنفيذ الأوامر وهو عائد إلى لبنان في أوائل أيلول للمشاركة في احتفالية تأسيس دولة لبنان الكبير.
ـ مطالبة الوزير السابق وليد جنبلاط بلجنة تحقيق دولية (وما أشبه اليوم بالأمس أيضاً وأيضاً).
ـ إعلان اجتماع مجلس الامن الدولي الاثنين المقبل بطلب من الجمعية العمومية للبحث في انفجار بيروت.
ـ بيان كتلة نواب المستقبل عن شكوك خطيرة تحيط بالانفجار وتوقيته وظروفه وموقعه (كما جاء حرفياً).
ومن ثم إعلان المحكمة الدولية تأجيل النطق بالحكم من 7 آب حتى 18 آب…
كلها مؤشرات ومعطيات لا تطمئن وستكون ملتهبة حتى انعقاد المحكمة الدولية في 18 آب وبعدها عودة ماكرون إلى لبنان في زيارة ثانية غير مسبوقة.
مكتب مفوّض الشرق الأوسط للجنة الدولية لحقوق الإنسان طالب بفتح تحقيق دولي لأنّ المعلومات الأولية لديه انّ الانفجار الأول ناجم عن صاروخ “غابرييل” المضاد للسفن أطلقته “إسرائيل” وأنّ الانفجار الثاني ناجم عن صاروخ “دليله” أطلق من طائرة “أف 16”، وبأنّ الشبه كبير بين انفجار عام 2005 الذي اغتيل فيه الرئيس رفيق الحريري والذي أدّى في نهاية المطاف إلى خروج الجيش السوري من لبنان (هذا ما جاء في حرفية بيان اللجنة).
وننهي لنقول:
1 ـ لا قيامة للبنان في ظلّ وجود عصابة اللصوص الوقحة المذهبية والطائفية الميليشياوية الفاسدة المرتهنة الظالمة التي تحكم وطننا، وعلى الشعب ان ينبذ ايّ فاسد ومفسد لأيّ جهة سياسية أو طائفية أو مذهبية انتمى. ولا حلّ إلا بإقرار قوانين رفع الحصانات واستعادة الأموال المنهوبة والإثراء غير المشروع ورفع السرية المصرفية…
2 ـ إنّ القرار الأميركي بتصعيد الأمور الى حدّ الجنون قد اتخذ وأنّ الأميركي ومن يدور في فلكه لن يقبلوا بديلاً عن تسليم سلاح المقاومة وإخراجها من السلطة سياسياً وتحطيم حلفائها…
3 ـ الصراع المقبل لن يتمّ استفراد لبنان فيه فنحن في زمن المحاور وما تستطيع المقاومة أن تفعله في الخاصرة الرخوة للحلف الأميركي الصهيوني المستعرب سيكون مرعباً، ولأول مرة في تاريخ الكيان الصهيوني، ولو أتت كلّ الأساطيل المتعددة الجنسيات…
4 ـ انتهت قاعدة لا غالب ولا مغلوب وحدّد عمر لبنان الذي نعرفه بقرن كامل من عام 1920 وحتى عام 2020، وللأسف لبنان قد عاش هذه المدة الطويلة بالحرام، فالاستقلال لا يُمنح، والكرامة لا تُستجدى…
*محام، الأمين العام للتيار الأسعدي