سعاده نقطة انطلاق وليس محطة ارتحال
} يوسف المسمار
يقول سعاده: «أردتُ ليس لنفسي، بل أردتُ للأمة، أردتُ لهذه الأمة أن تعرف حالها، وسرتُ في تحقيق إرادتي غير آبه لمن قام يرميني بالنار، لأني أردت إنقاذ الأمة وتحقيق مجدها».
من أجل إنقاذ الأمة وتحقيق مجدها، أسس سعاده الحزب السوري القومي الاجتماعي، حزباً مناقبياً نظامه بديع ليكون وسيلة فعّالة تحرّكها عقيدة النهضة باتجاه مُثُل عليا عظيمة ترتقي وتتسامى وتمتدّ في الآفاق امتداد العظمة اللامتناهية في الوجود جاعلاً العيش والموت من أجل إنقاذ الأمة وتحقيق مجدها في الحياة الفضلى وسيلتان لكل مَن وعى العقيدة وآمن بها وانصهر في حركتها حتى أصبح عيشه أو موته شرطاً لانتصارها من أجل إنقاذ الأمة من الويل الذي حلَّ بها وتحقيق مجدها.
ولأن الغاية انقاذ الأمة وتحقيق مجدها وتساميها، فليس مستغرباً أن يقول سعاده: «إن موتي شرط لانتصار قضيتي» كما كان عيشه شرطاً لإيجاد القضية، والتي لولاه لما كان لنا قضية.
ما وصل الينا عن سعاده قبيل استشهاده: «أنا أموت أما حزبي فباق، وأبناء عقيدتي سينتصرون، وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي. وقد أتممتُ رسالتي وأختمها بدمي». فهذه الأقوال، هي تجسيد صادق وآمين لقوله في الخطاب المنهاجي عام 1935:
« منذ الساعة التي عقدنا فيها القلوب والقبضات على الوقوف معاً والسقوط معاً في سبيل تحقيق المطلب الأعلى المعلن في مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي وفي غايته، وضعنا أيدينا على المحراث ووجّهنا نظرنا الى الأمام، الى المثال الأعلى، وصرنا جماعة واحدة، وأمة واحدة تريد الحياة الحرة الجميلة – أمة تحب الحياة لأنها تحب الحرية، وتحب الموت متى كان الموت طريقاً الى الحياة».
هذا هو الحزب الذي قال عنه سعاده أنه باقٍ بعد موته وأن أبناء عقيدة هذا الحزب سينتصرون ببقاء حزبهم رغم أن أعضاء الحزب هم أفراد يموتون أيضاً كما مات قدوتهم سعاده كفرد لتحيا الأمة كمجتمع ويبقى الحزب بعد موتهم وسيلة الحفاظ على حركة نهضة الأمة وتحقيق انتصارها. فيكون بقاء الحزب هو انتصارهم الذي يعني أن «حركة إنقاذ الأمة وتحقيق مجدها» تستمر فاعلةً في الوجود فيستمر أبناء هذه الأمة الأبرار أحياءً في ضمائر أجيالها.
وهذا هو قرار حكم الانتقام العادل لموت سعاده مِن كل مَن أراد للأمة الهلاك بدلاً من الإنقاذ، والذل بدلاً من المجد. والانتقام الذي يعنيه قول سعاده هو الانتقام من الباطل والظلم، وتنوير أبناء الباطل والظلم بتعاليم مبادئ مدرسة هذا الحزب الباقي بعد غيابه حتى يعودوا الى حضن الحق والعدل في بيئة الإخاء القومي الاجتماعي. والانتقام في هذا القول هو هو حكم العدل عينه كما أن الطغيان على الفساد والمفاسد هو العدل كذلك، ومن يرى عكس ذلك فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً.
قال سعاده: «كلنا مسلمون لرب العالمين منّا مَن أسلم لله بالانجيل ومنا من أسلم لله بالقرآن ومنا من أسلم لله بالحكمة… ليس لنا من عدو يقاتلنا في حقنا وديننا ووطننا الا اليهود»، ذلك لأن اليهود الصهاينة هم وحدهم أعداؤنا وكل من يعتدي علينا هو عدو. ولولا اعتداء اليهود الصهاينة علينا واحتلال ارضنا لما قلنا إنهم أعداء لنا. إن اله اليهود هو إله خاص ببني «اسرائيل» اليهود، وكلمة «اسرائيل» مركبة من كلمتين: «اسرة + ايل ) التي تعني اسرة الله المختارة والمصطفاة والمفضلة على العالمين وليس إله خير عام للعالمين فقد استهان بحقوق العالمين وجعل المؤمنين به يستهينون بحقوق غيرهم وأوطانهم وأديانهم فقد خرج عن الخير الشامل جميع البشر، ولا يصحّ أن نساويه مع الله المحب الرحيم الحكيم الذي يحبّ ويرحم ويهدي. وشتان بين إله محب رحيم هادٍ وإله مبغض ظالم مضلل. وهيهات ان تنتهي الحرب الوجودية بين المعتدي والمعتدى عليه الا بالقضاء على احدهما. فاذا انتصر المعتدي يسود الظلم والعدوان والكراهية. أما اذا انتصر المعتدى عليه فبانتصاره يعمّ السلام، ويفيض الخير، ويحصل الازدهار.
ويبقى كلام سعاده هو الدليل الذي لا دليل سواه الى إنقاذ وجودنا وحياتنا ومصيرنا من الهلاك، ويبقى شعارنا يخفق مدى الزمان: كلنا مسلمون لرب العالمين المحبّ الرحيم الحكيم الذي هو الخير المطلق وليس لربٍ مبغض حاقد ظالم هو الشر المطلق، وليس لنا من أعداء يقاتلوننا في حقنا وديننا ووطننا إلا اليهود المعتدين، وأصدقاء المعتدين اليهود، والويل لمن لا يعرف ولا يميّز بين العدو والصديق فيتنكر للصديق ويسقط في شرك العدو.
هذا هوالحزب الباقي بعد موت سعاده المنطلق من المبادئ العامة التنويريّة المحيية، والمتّجه دائماً الى الأمام والى أسمى المُثُل العليا. إنه حزب الجماعة الواحدة الواعية والامة الواحدة الناهضة التي تحب الحياة الحرّة الجميلة، وتحب الموت متى كان الموت طريقاً الى الحياة الحرّة الجميلة وليس طريقاً الى حياة العيش الذليل القبيح، ولا محبة الموت من أجل الموت او محبة حياة العيش من أجل العيش.
وكما أحب سعاده الفرد حياة عيشه من أجل «انقاذ أمته وتحقيق مجدها» فقد أحب أيضاً الموت لتبقى حركة نهضة الأمة السورية مستمرة في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يدوي صوت أعضائه: «كل ما فينا هو من الأمة، وكل ما فينا هو للأمة. الدماء التي تجري في عروقنا عينها ليست ملكنا. إنها وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها». وقد أتمّ سعاده رسالته وختمها بتقديم دمه لتحيا أمته حرّة جميلة عزيزة سيّدة.
لم تكن غاية سعاده أن يُقال عنه إنه قال بل كانت غايته الكبرى أن يُخرج أمته من الويل الذي حلَّ بها ويُؤمّن لها مستوى حياة زاهراً وراقياً فأسس لها حزب الأمة وجعله مدرسة حياة لتجديد القيم الاجتماعية، وتحديث الفضائل الإنسانية، وعصرنة المعرفة الراقية النافعة، والأخذ بالعلم النافع، والقيام بمهمة الصراع لانتصار رسالة الهدى لأمته وغيرها من الأمم بتقديم الفلسفة القومية الاجتماعية – فلسفة التفاعل الموحّد المادية – الروحية ( المدرحية ) التي قال عنها سعاده إنها فلسفة : «التفكير القومي الاجتماعي الذي يقدم النظرة الجامعة للمذاهب الانسانية الجديدة المتنافرة». فكان باراً بأمته في حياته وفي موته.
لم يكن هدف سعاده الكتابة من أجل الكتابة لتوضع كتبه ومقالاته المكتوبة وتسجل اقواله وتستريح على رفوف المكتبات لتلفت نظر رواد المكتبات والسائحين وهواة القراءة ليتحدثوا عن سعاده الكاتب فيعجبون بمقالاته وأفكاره وأقواله ويمدحونه ككاتب عبقري استشرافي، بل كان هدفه الحقيقي خلق نهضة قومية اجتماعية تخرج الأمة من الظلمة الى النور، ومن الشك الى اليقين، ومن الفوضى الى النظام، ومن التخلّف الى التقدم، وإنقاذ الأمة من العيش الذليل ورفعها الى الحياة الحرة الكريمة.
سعاده لم تقتصر جهوده على ما كتب فقد قال أكثر مما كتب، وأقواله أمام الأمناء والرفقاء والمواطنين وجميع من التقى بهم وتحدّث إليهم قد تساوي مجموع ما كتب وربما أكثر مما كتب. واذا كان من شك في بعض ما قال أو في بعض ما كتب، فالشك يكون ويجب أن يكون في كل ما يعارض مضمونه فلسفة النهضة القومية الاجتماعية وما لا يتوافق وينسجم مع غاية النهضة.
أعداء النهضة القومية الاجتماعية اغتالوا سعاده ظناً منهم أنهم قضوا على حركة النهضة، وعندما اكتشفوا أن حزب النهضة بقي صامداً ثابتاً على مبادئ النهضة وغايتها جيّشوا فلاسفة الفتنة لا حكماء الحكمة، وعلماء التضليل لا معلمي الهداية، وأبواق الدعاية لا إعلاميي نشر الحقائق، واقلام العبودية لا أبطال الحرية، وموّلوا ودعموا ويمولون ويدعمون كل هؤلاء واولئك ليبثوا في صفوف ابناء وبنات النهضة أفكار الشكوك والبلبلات، وخواطر الخداع والغش، ونظريات التطور، وآراء الفوضى والتفلت من كل ضابطٍ نظامي وأخلاقي ليتمكنوا من القضاء على حركة نهضة الحزب السوري القومي الاجتماعي وإطفاء جذوة الحركة لتتحول الى خمود وعدم.
إن كل قولٍ يعبّر عن حقيقة النهضة القومية الاجتماعية ورسالتها هو لسعاده، وعلينا نحن ابناء الحياة أن نثبت أننا تلامذة نبدع، وأن نكتشف ما بقيَ مضمراً في عقل سعاده وننطلق منه ايضاً لنزيد عليه لأن المعلم أرادنا أبطالاً مبدعين مصارعين في كل شؤون الحياة يبدعون مثل ما أبدع، ويسعون الى إبداع فوق ما أبدع لننتقم لموته. وهذا هو الانتقام الذي يعني الحكم العادل لموته. فالمعلم هو قاعدة انطلاق الى قممٍ تتسامى النفوس الجميلة بها في الحياة، وليس محطة ارتحال تتراخى وتتخدّر النفوس الذليلة بالوصول اليها فتستسلم للعيش الذليل.
كم نحن بحاجة الى أن فهم بعمق قوله الحكيم البليغ: «إن القضية ليست قضيتي وحدي، بل القضية قضية الجميع، فليس من العدل أن أكون الوحيد الذي يُنتظر منه أن يعمل دائماً، بينما الآخرون يترددون عند كل شك غير مبرر، ويتزعزعون أمام كل خشية».
إنّ القول الذي لا يتحول الى فعل لا يرجى منه خيرأ. الفاعلون هم الذين يحققون النهضة ويسيرون بالأمة الى النصر ولا يتلهون بالاقوال. واذا كان لا بد من القول فليكن قولنا دائماً وأبداً لمصلحة حزب نهضة أمتنا، وعدم الالتهاء بما لا ينفع نهضة الأمة، فسعاده ما أراد لنفسه شيئاً بل أراد للأمة كل شيء فكانت كل أقواله وكل أفعاله وكل إنجازاته وكل حياته وحتى موته أيضاً من اجل إنقاذ الأمة وتحقيق مجدها. وهذا ما دعانا اليه وكان قدوتنا في حياته وموته، ولنتذكر معاً خطابه في 16 تشرين الثاني سنة 1936:
« أيها السوريون القوميون
كونوا رسلاً أمناء لقضيتكم القومية. كونوا جنوداً لتحاربوا التجزئة والانقسام الداخليين.
كونوا سداً منيعاً ضد الدعوة الى بعث النعرات الهدامة.
أوصوا كل مَن تجتمعون بهم أن لا يكونوا آلة في يد رجال يستثمرون الشعب في سبيل منافعهم، هؤلاء الذين اتخذوا الرعونة نظاماً لهم والمنفعة الشخصية دستوراً.
كونوا قوميين دائماً إن المستقبل لكم».