تشكيل الحكومة الجديدة… المكتوب يُعرَف من عنوانه
} علي بدر الدين
لا فرق إنْ استقالت حكومة مواجهة التحديات أو أقيلت لأنّ النتيجة واحدة. وهذا ما كان متوقعاً لها منذ أن تشكلت في شهر شباط من العام الحالي، لأنّ التصويب عليها من بعض الحلفاء قبل الخصوم، حيث يبدو أنّ الكيمياء لم تتفاعل بينهم وبين رئيسها المستقيل حسان دياب، ولأنها لم تقدر على التغيير والإصلاح وتحقيق إنجازات نوعية وعدت بها اللبنانيين، وأنّ العجز أو التقصير أو الفشل لا تتحمّل وحدها مسؤوليته، ولكن لا تبرير لهذا التقصير. لطالما دعونا إلى استقالتها قبل أن تقال، لأنها لا تستطيع الصمود في مواجهة طبقة سياسية حاكمة منذ ثلاثة عقود ومتمرّسة في سياسة النفاق والخداع والمناورة ومتمترسة خلف بلوكات طائفية ومذهبية وخطوط حمر، وقد اخترقت مفاصل الدولة ومؤسّساتها التي نخرها سوس الفساد وتوظيف الأزلام العشوائي وكيفما كان.
غير أنّ الرئيس دياب أصرّ وعاند وكابد عله يستطيع خرق جدار هذه الطبقة (أو هكذا كان يعتقد) التي كانت وما زالت عصية على التطويع والانصياع لأيّ قوة أخرى، وإنْ هادنت وانحنت لبعضها عند هبوب العاصفة لتعود أقوى وأكثر تماسكاً وتسلطاً على قاعدة تقاطع المصالح بينها، مع أنها في إظهار قوّتها تلجأ إلى اختلاق معارك وصراعات وهمية لشدّ عصب بيئاتها الحاضنة واستنفارها وتحضيرها لتكون غبّ الطلب لتنفيذ الأوامر.
هذه الطبقة الداعمة للحكومة أو الرافضة لها منذ تشكيلها تخطط للإطاحة بها والتخلص منها وعدم إتاحة فرص النجاح وتحقيق أيّ إنجاز «عليه العين» يمكن أن يزيد من رصيدها السياسي والشعبي. غير أنّ الانفجار الكارثي والفاجعي في مرفأ بيروت وتداعياته على الداخل والخارج لحجم الدمار والموت والإصابات والمفقودين والتي بدأت مع الحراك الشعبي المصدوم لهول الجريمة الكبرى والذي تحوّل إلى انتفاضة في وجه السلطة وكلّ الطبقة السياسية باعتماد أساليب جديدة كاقتحام الوزارات والمؤسسات، ثم الزيارة المفاجئة للرئيس الفرنسي ودعوته لتشكيل حكومة وحدة وطنية بمفهومه وليس الحكومات التي اعتادت على تشكيلها الطبقة السياسية منذ اتفاق الطائف. ثم السجال الذي لن ينتهي حول الجهة المطلوبة للتحقيق في الانفجار داخلية أو خارجية، ثم قرار تحويلها إلى المجلس العدلي
ودعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري لجلسة مساءلة الحكومة واستجوابها، وقد يكون مؤشراً استشفه دياب لإرباك حكومته وخلخلتها، بعد تدحرج استقالة الوزراء التي بدأت من الذين اختارهم، وبعدها كرّت السبحة والضغوط عليه من كل حدب وصوب. والأكثر إيلاماً بالنسبة إليه تنصّل البعض من حلفائه من الحكومة وتركه وحيداً من دون ناصر او معين أو سند.
على وقع محاصرته وانسداد الطرق أمامه وتخلي الوزراء والحلفاء عنه قرّر اتخاذ خيار الاستقالة المتاح الوحيد له وأدلى بدلوه ضدّ الطبقة السياسية وتاريخها الأسود، وختم بالدعوة ثلاث مرات «الله يحمي لبنان» ثم يمّم وجهه إلى القصر الجمهوري وقدّم استقالة حكومته خطياً لرئيس الجمهورية الذي قبلها وكلفه بتصريف الأعمال حتى تشكيل حكومة جديدة، ولكن من دون تحديد موعد الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس جديد لتشكيل الحكومة الجديدة، ما اعتبره المتابعون بأنه أمر غير مألوف، وهو ما حصل للمرة الأولى خلال الاستشارات السابقة التي أفضت إلى تكليف الرئيس دياب نفسه. وهذا يعني برأيهم أنّ الجميع بانتظار قرار الخارج الذي سيحمله الموفد الأميركي ديفيد هيل أولاً، ثم الرئيس الفرنسي ماكرون العائد إلى لبنان في أول أيلول لبلورة صيغة حكومة الوحدة الوطنية التي رماها أمام من التقاهم من القوى السياسية خلال زيارته لبنان عقب انفجار المرفأ.
ويبدو أنّ هناك أثماناً سياسية وربما تسويات في مكان ما وفي ملفات خلافية عجلت باستقالة الحكومة للإمساك بطرف الخيط أولاً والباقى تفاصيل يمكن التعاطي معها بمرونة وإنْ كانت مسكونة بالشياطين. وبما أنّ المكتوب يُعرف من عنوانه بات واضحاً شكل الحكومة وعنوانها ومكوناتها، وخاصة أنّ الإشارات كلها تتجه إلى تكليف الرئيس سعد الحريري لأنه لم يعد في الميدان إلا حديدان بعد أن خبرت بعض الاسماء المطروحة أو التي على لائحة الانتظار معاناة الرئيس المستقيل حسان دياب من الحصار والتصويب عليه ورمي التهم ومنها أنه أساء لمنصب رئاسة الحكومة إلى آخر المعزوفة التي لا يمكن لأحد أن يتحمّلها.
الخشية في تكليف الحريري أن يكون تشكيل الحكومة على قياس وشكل ونوعية الحكومات السابقة التي تعاقبت وأفسدت وتحاصصت وأغرقت البلاد والعباد بالدين والافلاس وإفقار الناس وتجويعهم وسرقة أموالهم العامة والخاصة وكذلك أموال المودعين في المصارف، وهذا يعني عودة إلى الماضي المخيف وإعادة فتح مغارة لصوص الهيكل من جديد للقضاء على ما تبقى من آمال وأحلام لدى اللبنانيين الذين تلازمهم لعنة الطبقة السياسية التي يبدو أن لا خلاص منها حتى بزلزال المرفأ الذي قتل وجرح الآلاف وحوّل الأبنية والبيوت والمستشفيات والمدارس والشركات وغيرها إلى ركام، وهي ما أن تغيب أقدامها حتى تطلّ برؤوسها كدمغة أزلية لا تمحى.
الرهان اليوم على صحوة ضمائر هذه الطبقة بعد أن التحمت مجدداً وهي أساساً متقاربة وتتواصل من تحت الطاولة حيناً ومن فوقها أحياناً أخرى، على قاعدة تقاطع المصالح السياسية للبقاء في الحكم، وأن تتعظ وتعتبر من زلزال المرفأ رأفة بالبلد والناس ومواساتهم والوقوف الى جانبهم ومعهم في هذه المصائب التي حلت بهم، بأن تساعد في تشكيل حكومة وطنية مستقلة من الأكفاء وأصحاب النزاهة المشهود لهم بنظافة الكفّ وهم يتواجدون بكثرة وتعرف الكثير منهم في بيئاتها.
الرهان الثاني سيكون على وعي الناس والخروج من الارتهان والتبعية والاستسلام لسياسة الأمر الواقع وأن تتوفر لهم جرأة المواجهة والتصدي لكلّ من يريد مصادرة او سرقة الحقوق مهما كانت الضغوط والتضحيات.
لن نتفاءل كثيراً أو قليلاً أو نعقد الأمل على أيّ تغيير ممكن ما دامت الطبقة السياسية ذاتها التي تختلف وتأتلف وتتصارع مرة وتتفاهم مراراً كما حصل في الماضي وكما يحصل اليوم، وقد اجتمعت اليوم كما بالأمس لأنّ مصالحها ووجودها في الدقّ كما يُقال. لذا نتوقع أن يطول تشكيل الحكومة لأنّ الأوضاع راهناً أكثر تعقيداً وتأزماً على كلّ المستويات خاصة في مرحلة ما بعد انفجار المرفأ وتداعياته الكثيرة والخطيرة والتي تحتاج إلى رئيس حكومة من نوع «سوبر» ووزراء غير مرتهنين ولا ضعفاء. يعني أن تكون حكومة استثنائية في أوضاع استثنائية إلا إذآ كانت هناك تسوية تمّ تحضيرها برعاية التوافق الإقليمي والدولي، لأن لا قرار لدى الطبقة السياسية التي اعتادت الاعتماد على هذا الخارج الذي يملك القرار وتحديداً في الاستحقاقات الوطنية والدستورية. والسؤال، هل يكون زلزال المرفأ وأرواح اللبنانيين ودماؤهم ووجعهم والنكبة التي حلت بهم فداء للوطن والشعب وبداية لسلوك دروب السلام والاستقرار؟ أم أنّ الأرض لم تكتف بعد من تضحياتهم التي باتت لا تعدّ ولا تحصى؟ وهل يفقد الشعب الأمل ويستمرّ الألم… ومتى يمكن الخروج من النفق القاتل؟