لحظات حميمية يستحيل تسجيلها بأمانة علميّة الشاعر الراحل أمين الذيب بحضن الأسرة وفرادة البطولة
كتب في غيابه الشعراء والنقاد، من لبنان والعالم العربي، أمس، تذكرته شاعرة تونسية وسيتذكره كثيرون، كتبوا في شعره، في نثره، في إطلاقه مع زملاء وزميلاته ملتقى الأدب الوجيز..
لكن ما خفي عنهم كان جميلاً وحميماً، لا أحد يعرف خبايا «جدّو أمّوني» غير احفاده ويحتفظون بأسرار حبهم لأنفسهم ولا يكتبونها. ليست سرية مصرفية في عصر تهافت السريات كافة. إلا سرية قلوب الأحفاد العشاق.
اليوم دور أسرتُه، تفتح القلوب، تشحذ الأقلام وتفيض حبراً ودمعاً.. زوجته نجوى، ابنه وائل وزوجته لارا يحيى، ابنته تمارا، ورفيقه المحامي ناظم رافع يتذكره مذيعاً وقائد محور عسكري حرر الشحار الغربي ومنفذاً عاماً حيث يمتحن فولاذ الرجولة..
روح الروح
} نجوى الذيب*
أمين الذيب زوجي حبيبي وروح الروح
يا مَن علّمتني أن أكتب الحب والخبر والجمال
كيف لي أن أكتب اليوم عن رحيلك المؤلم
بعيد زواجنا منذ ستة وأربعين عاماً
فأنا أراك نسراً محلقاً في السماء
يا فارس القلم ويا سيّد الكلمة
يا بطلاً يا مناضلاً في قضية الوطن
يا كلمة الحق في الأوقات الصعبة
كيف رحلت وأنت كل العائلة بما فيها
لا أصدق أنك رحلت
يا فخري واعتزازي
يا أيّها الرجل العظيم
يا من عجزت الألسن عن التعريف بك
رحلت بومضة
وما أصعب هذا الرحيل
على عائلتك وضيعتك وأصدقائك ومحبيك
وعلى رفاق دربك في الأدب الوجيز
لقد تركت أحباءك مفجوعين،
من شرق الدول العربية الى غربها
لا أحد يصدق
كم نفتقدك،
كم تفتقدك مكتبتك وكتبك وحبر قلمك
كل شيء حولي يفتقدك
بيروت اليوم تفتقدك
اشتقت أن أجلس بجانبك أمام شاشات التلفاز
تقرأ الأخبار وتحلل الأحداث وتستشرف المستقبل
كنت أقول لك آخ يا أمين تقرأ المستقبل وكأنك نبي
لقد كانت آخر وصية لك
«انتبهي على الأولاد»
أنت كنت قوتي، وسأبقى قويّة بك
فأنت تركت لي عائلة أعتز وأكبر بها
وتركت لنا إرثاً سنحافظ عليه بعيوننا
أنت مَن ربّيت وعلّمت وكبرت
وكنت مثالاً للأب والزوج والصديق
وسنبقى يا أمين الذيب على خطاك سائرين
ولا بد لنا أن نلتقي يوماً ما يا حبيبي.
*زوجة الشاعر الراحل أمين الذيب.
حكمتك ستظل نبراساً
} وائل أمين الذيب*
«هناك لحظات لا يمكن تدوينها، ورعشات لا يمكن تفسيرها. وانسياب لا يُعرَف مداه، إنه عالم من الأفكار والمشاعر والأحاسيس، دنيا قائمة من الحقيقة والخيال، من الواقع والأحلام، لا يمكننا ملاحقتها لكثرة توالده وتنوّعه وتغيّره». والدي العظيم، هذه نبذة من كتاباتك في رواية «قضبان نحو الحرية».
لقد برعت في فهم الحياة يا أبي ولقد أبدعت في حياكةِ حياةٍ مفعمةٍ بالنشاط والتنافس على العطاء. منذ بداية مسيرتك في الحياة، صمّمتَ على الارتقاء النفسي، الاجتماعي، المهني والأدبي. اعتليت مراكز قيادية وفكرية وتجارية. حققت نجاحاً باهراً ازدادك تواضعاً وشغفاً على تحقيق المزيد. ولا نجاح من دون فشل، ففي فشلك صنعت ثورة ألهمتك الى الصعود مجدّداً إلى قممٍ أعلى وأرقى.
كنتَ مفعماً بالحياة لدرجة أنّك انتقدتَ النوم، لأنه يسرق منك ساعات تستطيع من خلالها تحقيق المزيد من الإنجازات.
وبغفلةٍ، قرّرتَ الرحيل وما زال عطاؤكَ متدفقاً، حضوركَ متألقاً ونوركَ متجلياً.
فيا أبي، إن اللحظات التي لا يمكن تدوينها، هي لحظات الحزن على فراقك، والرعشات التي لا يمكن تفسيرها هي عندما نحاول أن نتقبّل عدم رؤيتك مجدداً. حقأً إنه عالم من الأفكار والمشاعر والأحاسيس، فكل تلك منغمسة في ثناياك. والحقيقة في صراعٍ مع الخيال، تارةً الأخيرة تُقنع الحقيقة أن فقدانك وهمً وتارةً يُهزَمُ الخيال. يأتي الليل لنحلم أنك لا زلت موجوداً بيننا لنصحو في الصباح على الواقع الأليم.
كن مطمئناً يا أبي، لقد بَنَيتَ فينا رجالاً وأورثتنا حب الحياة وحب العمل وأهديتنا على الصواب، ونحن نعاهدك أن حكمتك ستظل نبراساً نستنير به.
فبعد أربعين يوماً أقول لك لن تغيب أبداً، فأنتَ في قلوبنا وفي قلوب كل الناس الذين عرفوك بقلبكَ وروحكَ. أشكركَ على كل ما قدّمته لنا وعلى كل ما تستمرّ في تزويدنا به روحياً بعد رحيلكَ.
ارقد بسلام يا أبي، وليتغمّدك الله بواسع رحمته ويدخلك فسيح جناته.
*ابن الشاعر الراحل امين الذيب.
لن أرثيك يا أبي..
فأنت الحاضر الحاضر
} تمارا أمين الذيب*
كيف لا؟ وقد صقلت بيديك عزة النفس فينا ورسمت أحلامك على ملامحنا وكتبت قصائدك على وتيرة نبضنا وعشقت لبنان من لون عيوننا.
كيف أرثيك يا أبي وأنت من اختصرت الحياة بدعسات أقدامنا وأنت من آمنت بالجيل الجديد فأكرمت عليه وأغدقت بدراساتك وأبحاثك وخطاباتك وتوصياتك. وها أنا الآن يا أبي لا زلت أخالك أمامي تلعب مع اخوتي وتنظر اليّ بعيونك العسليّة وتناديني.
نعم، والدي كان يركض ويلعب معنا في الدار في بذلته الأنيقة وحذائه الرسمي وربطة عنقه.
أمين الذيب الأنيق في هندامه والراقي في حضوره كان يخرج الى العالم مكتظاً بالحياة فيبعث الفرح ويزرع الأمل وينير الدروب بنصائحه.
فأمين الذيب رغم وقاره وجديته، لم يكن ذاك الأب الصارم بل كان ذاك الصديق الوفي. كان يردّد لي: «كل إنسان هو قيمة بحد ذاته». فكبرت على احترام الإنسان كإنسان بغض النظر عن لونه ودينه ومستواه الاجتماعي.
أما أمين الذيب الأب فقد كان أباً معتزاً ومؤمناً بأولاده. أذكر جيداً ذلك اليوم حين طلب أبي من المهندس أن يبني في وسط الصالون مدرجاً للبيانو بعد أن رأى ابنه البكر فراس يعزف على البيانو على مسرح المدرسة. وكان يفتخر بكلمات ابنته ديالا ويعيد ما كتبته بطفولتها عندما طلبت المعلمة من التلاميذ أن يصفوا بجملة واحدة آباءهم. فقالت: «أبي يعرف كل العالم».
أما أنا فأتذكّر جيداً كيف كنت أفرح باللعب على البيسكلات في دارتنا أمام الشاعر الكبير فؤاد الخشن وعقيلته وكنت أردّد أمام رفاق المدرسة أبي صديق الشاعر الذي ندرس قصيدته في الكتب «سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر، فاعصفي يا رياح وانتحب يا شجر، واسبحي يا غيوم واهطلي بالمطر، واقصفي يا رعود لست أخشى الخطر».
أما وائل فقد كان يشبه والده قالباً ومضموناً وكانت تربطه به علاقة حميمة وكأنه صديقه القديم الذي عاش معه دهراً. ورغد ابنته الصغيرة كانت لعبته الصغيرة التي يخاف عليها.
أما أمين الذيب الجدّ، فقد كان ذلك الملاك الحارس، كان يحضن أحفاده كأرض تحضن بذور الحياة. علاقة أمين الذيب بأحفاده علاقة لا مثيل لها. كان هناك انجذاب سحريّ بينهم حيث لا يواسيهم أحد مثل «جدّو أموني».
أما أمين الذيب الزوج، فقد كان أباً وأخاً وصديقاً وحبيباً لزوجته نجوى. كان يسأل عن زوجته كولد يسأل عن أمه كلما دخل عتبة البيت. نجوى الذيب كانت مشكى همّ الوالد، كان يستشيرها ويناقشها في كل الأمور، وكان يطرب بحديثها وآرائها وأسلوبها وأمانتها وصدقها وحنانها. وكانت أنسه في هذه الحياة الجميلة القاسية.
أما أمين الذيب الأخ، فكان كان وحيداً وكانت لديه أخت وحيدة هي نعمات الذيب. تزوّجت صغيرة وسافرت الى فنزويلا. كان رغم حبه لأمه التى غمرته بحبها ولطافتها واهتمامها كان لا زال يعتب عليها كيف أنها وافقت على سفر ابنتها الوحيدة وتركته في لبنان وحيداً. كانت علاقته مع أخته مميّزة وكان مثالاً لأبناء ضيعته بعلاقته واحترامه وحبه لأخته.
ليست صدفة أن يرحل أمين الذيب قبل انفجار المرفأ. لقد رحل أمين الذيب على عجلة كي لا يرى بيروت وهي تحترق. لقد غادرنا وهو خائف على لبنانه الحبيب فكان هاجسه وهمه.
كم سنحتاجك يا أبي وكم سنفتقد أراءك وتحاليلك الثاقبة. كم سنشتاق لحضورك الجميل. سلام لك يا والدي من رفاقك وأصدقائك وأقاربك. ولا تخَف علينا يا أبي فأنت مَن غمرتنا بلطفك وحصنتنا بالعلم والاخلاق في حياتك وغمرتنا بسيرتك الجميلة وإرثك العظيم في مماتك. حتى أنني شعرتُ بموتك يا أبي أنك لست أبانا وحدنا بل أنت حبيب الناس أجمعين.
* ابنة الشاعر الراحل أمين الذيب.
حرقة لرؤياك المستحيل
} لارا يحيى الذيب*
عمي الغالي،
ما زالت روحك النقيّة تعيش في الوجدان المكسور، وما زالت الدار كئيبة موحشة…
وما زلت حياً في قلوبنا نعيش مرارة الفراق وحرقة الشوق لرؤياك المستحيل.. ذكراك ووجهك الحبيب الى قلوبنا ما زال في الوجدان….
بيتك ما زال يبكي فراقك… زاويتك التي كنتَ تجلس فيها وأجلس بجانبك نتحدّث ونضحك…
كل شيء اشتاق إليك وحنّ إلى غيابك المفجع…
عمّي الحبيب، ستظل في الذاكره الإنسان المسالم المسامح المحب للجميع… وفي القلب ستظل تلك الحسرة والغصة التي لن تعالجها الأيام والشهور والسنون.
وتظل الذكريات الجميلة هي الشمعة التي تضيء ظلمة الحياة التي لسعتنا بقسوتها بوجع فراقك القاتل…
فذكراك باقية ما دمنا باقين، فأنت فينا لن تزول… الله يرحمك يا عمّي أمين الغالي الحبيب… وإنا لله وإنا اليه راجعون.
*ابنة اخ الشاعر الراحل أمين الذيب.
أمين الذيب سيرة
صراع لم ينطفئ
} ناظم رافع*
مَن عرّفنا على فجر الثامن من تموز؟
أمين الذيب
مَن عرّفنا على قيمة الثامن من تموز؟
أمين الذيب
قالوا الليلة سيأتي مذيع لحلقة إذاعية جديدة.. وانتظرناه.
دخل شاب منتصب القامة ملامحه وقّادة كلامه ثورة على التقاليد. شرحه سلس للواقع. أفكاره يبثها بقوة وعنفوان.
إنه شهريار الحلقة الإذاعية.
إنه أمين الذيب.
فبدل ان يصغي يحكي والكل يصغي له.
عرفنا على فتى آذار والانسان الجديد ومَن نحن وجلب لنا زلزالاً هدّ ما كنا به، ولكن لم يبنِ لنا شيئاً سوى أفكار جلية ومعنويات.
انتبهوا من رجال الأمن
انتبهوا من الدرك
تباعدنا قبل وصول كورونا وشرح ذاك الحقد الدفين من السلطة على حزب سعاده.
يوماً بعد يوم تعرّف الناس على أمين الذيب أكثر وأصبح وجوده في كل المناسبات وذهب معه شباب كثر للنهاية في فهم العقيدة والقسم.
وأمام الامتحان في ساحات الوغى أتى الاحتلال، فكان هذا المذيع الفذ قائداً ومنفذاً عاماً للغرب (قضاء عاليه) في زمن اختبأ فيه الرجال وبدلاً من عيون الشعبة الثانية ولدت شعبات وأعين من كل الجهات وملاحقات للصف المقاوم ومطاردات.
كان يدفع لهم الاحتلال فرش موني ليدلوه على المقاومين ليعتقل الأبطال.
وأتى تهجير كفرمتى والشحار وفقد أمين رفيقه رفيق الذيب والده الذي اختبأ منهم يوم المجزرة في برميل الزيت وبقي أياماً عدة فيه ودعسات وجنازير دبابات المعتدين يمرّون أمام ذلك الدكان الصغير مطمئنين الى خلوّ الساحة لهم حتى خلا الجو منهم فقفز أبو أمين ونزل جسر القاضي ووصل بيروت وعلم أمين الذيب أن والده بخير حيّاً يُرزق وكان هو عندها تسلّم قيادة محور الشحار الغربي عسكرياً.
وكانت المواقع تبعد أمتاراً فقط والعدّة سلاح أبيض ومسدسات لقرب المواقع.
حتى أتت ثورة 6 شباط في بيروت وأطاحت بأمين الجميل وجيشه على يد القائد العام لأمين الذيب الأمين محمود عبد الخالق الذي قاد عملية تسليح بيروت وإدارة بوصلتها المختفية فعزّز مواقع قائد المحور أمين الذيب الذي انتظر أياماً عدة منها ليتقدم تحت النار في أقسى اقتحامات شهدتها الكرة الأرضيّة صوب محور عين كسور فحرّر إلى الخزان وخرق الجبهة المواجهة لها واستولى على العتاد والتقى بباقي المحرّرين.
فانسحب مع كل المجموعات القتالية الى ساحة قبرشمون، حيث صوّرته جريدة السفير يوم 14 شباط على ظهر الملالات وأعلام الزوبعة.
وانسحب إلى عيناب مقرّ القيادة التي تحفظ وتدعم جبهات بيصور وعيتات ايضاً.
لتنتهي مرحلة من حياته النضالية ويبدأ بالعمل من جديد.
بنى أسرة على الأنقاض وذهب صوب العالمية والتجارة والسياحة وبرع فيها وعاد إلى التجارة الداخلية واتجه الى الأدب والشعر يصعد المسارح في كل المنتديات أو معظمها مبدعاً بالشعر والأدب.
أمين الذيب تسلّح دائماً بأمينته ويده اليمنى زوجته نجوى فكانت خير الأمان والسند طوال حياته.
ومرافقاه فراس ووائل.
وكان فراس مغترباً ينهض بحمل الأهل في لبنان، حيث إن هذا البلد يجعل كل شيء بلا قعر، كما وصلنا إليه اليوم بسبب مسؤولين إن تكلمنا عنهم أم سكتنا صاروا أضحوكة العالم ومصدر استهزاء ليأخذهم الله عنا مع سلالاتهم.
الرفيق أمين الذيب لم ينتظر أحداً وصول رحلته للنهاية فما زال يروق للحياة ففارقها وكأنها جنت ولم تحسب أن له أحبة ومبدعين ينتظرون صولاته وجولاته وأحفاداً هم بحاجة الى حنانه.
فأتى انتقاله إلى دنيا الخلود سريعاً.
وتبقى القاعدة: «قد تسقط اجسادنا اما نفوسنا لقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود».
هذا ما قاله سعاده وما شرحه أمين الذيب وطبق هذه النظرية.
لقد ترك نفسه تتلاقى في هذا الوجود وستبقى وقفاته ومسيرته عبرة ونافذة لا تنسى.
لقد استحق رتبة الأمانة في حياته ولم يقبلها لأنه كان يشعر أنه الأمين منذ أول يوم دخل نهضتها وما أحب النهاية.
أمين الذيب رحلت الى دنيا الخلود. فالبقاء للامة.