الثقافات الزائفة ومصير الهلاك
} د. ادمون ملحم
في مجتمعنا ثقافات زائفة تسري في دورة حياته الاجتماعية والسياسية والروحية تحاول احتلال عقول الناس وإخضاعها فيسيرون باتجاهات سلبية ومتناقضة تصبّ كلها، في نهاية المطاف، في تعطيل وحدة الحياة المجتمعية لما تخلقه من حواجز نفسية ومادية وتؤدي بهذا المجتمع إلى إنهاكه وتفكيك الروابط بين مكوّناته البشرية وتفتيته إلى كيانات هزيلة ومعتقلات مذهبيّة متصارعة ومرتبطة بإرادات خارجية تتلقى منها الدعم والحماية والرعاية، ولكن هذه الإرادات الخارجية لا تقدم لها شيئاً مجاناً لأن لها خططها ومصالحها ومنافعها ولها تحالفاتها وأحلافها ومشاريعها الاستعمارية الهادفة للسيطرة على ثروات الشعوب ومواردها واستغلالها…
ومثالاً عن الثقافات الزائفة الرائجة في مجتمعنا الداخلي نجد ما يلي:
أولاً، ثقافة الانهزام وانعدام الثقة بالنفس وقتل المعنويات، وثقافة التيئيس من خلال تجويع الناس ودفعهم للهجرة او الخضوع لإرادات القيادات الطائفيّة والاستزلام لها، وثقافة التبعية والارتهان للخارج، وثقافة التزييف والتزوير والتربية الزائفة القائمة على إنكار الحقائق الاجتماعية والتاريخية، وثقافة التكاذب والنفاق وانحدار القيم والأخلاق، وإلى ما هنالك من ثقافات انحطاطية مدمّرة تعرقل تقدم المجتمع وتقتل معنوياته وتقيم الحواجز الروحية والاجتماعية – الحقوقية بين أبناء الشعب الواحد..
ثانياً، إن أكثر الثقافات الزائفة انتشاراً هي ثقافة التعصب الديني الأعمى، ثقافة النبذ والإقصاء والكراهية المعادية للتنوّع والانفتاح وللتفاعل الاجتماعي والتقدم الإنساني.. هذه الثقافة البدائية السّامة، تسترخص دم الإنسان وتؤلِّه العنف والإرهاب وتشوّه النفس الإنسانيّة الجميلة.. إنها ثقافة القتل والموت التي رأينا مظاهرها في الارتكابات الفظيعة التي قامت بها الجماعات الإرهابية – التدميرية.. إنها ثقافة منشغلة دائماً بصناعة الموت ومستغلة كل الوسائل لتدمير وحدة مجتمعنا وتفتيته إلى كيانات وإمارات مذهبية وإثنية تشرعن قيام الدولة اليهودية وتتنافس بينها على خدمة التحالف الأميركاني – الصهيوني والانصياع إلى إملاءاته..
هذه الثقافة القبلية، العنفية، الحاقدة، التي تسربت إلى مجتمعنا بتخطيط صهيوني ممنهج ومدروس شاهدنا أولى تجلياتها في مجازر عديدة ارتكبت خلال الحرب اللبنانية المؤلمة وشاهدنا تجلياتها أيضاً في السنوات الأخيرة في أحداث وعمليات تخريبية وانتحارية في لبنان وفي أفعال إجرامية متعددة…
ثالثاً، تنتشر في مجتمعنا ايضاً ثقافة الغزو الثقافي –الفكري الممهّد للتطبيع مع العدو في كل الساحات والميادين..، وهذه الثقافة، التي تروّج لها أبواق وأقلام إعلامية صفراء مدفوعة من دوائر عالمية ودول استعمارية ومن أنظمة عربية مهرولة للتطبيع مع العدو، غايتها تعطيل ذاكرتنا القوميّة وتكبيل وعينا وإدخال اليأس في نفوسنا فنجد أنفسنا مُجبَرين للقبول بصفقة القرن ومندرجاتها والسكوت عن جرائم العدو ونسيان المسألة الفلسطينية والاعتراف بالاغتصاب الجاثم على أرضنا وبوجود دولته المارقة – المصطنعة التي تمارس أبشع جرائم القتل والتنكيل بشعبنا الفلسطيني ومصادرة أراضيه وبناء المستوطنات وتهويد الأرض والتوسّع المستمر.. وبالنهاية سنجد أنفسنا خاضعين لإرادة هذه الدولة ولمشيئتها.
رابعاً، ومثال آخر عن الثقافات الزائفة يتجسّدُ بالتخبّط السياسي والفوضى السائدة في كل الأعمال والخطط، وبظاهرة الفساد الإداري والمالي والسياسي والأخلاقي المستشري في القطاع العام: في بنى الدولة ومؤسساتها على كل المستويات، وفي القطاع الخاص، والتي تشكل ضرراً كبيراً في حياة المجتمع وعائقاً لإنمائه وتقدّمه وحاجزاً منيعاً أمام طموحات الشعب في الحياة الكريمة اللائقة. وهذه الظاهرة المنتشرة، والمتعدّدة المظاهر، وما نتج عنها من نهب لأموال الدولة والشعب ومن إفلاس مالي ومصرفي وانهيار اقتصادي، وانحرافات إدارية ووظيفية وسلوكية وخرق للأعراف والضوابط والقوانين، وتراخٍ وتكاسل وتقصير واستهتار وسلبية في مختلف المسؤوليات والوظائف، وانتشار الرشى والعمولات والمحسوبيّات واستغلال مواقع السلطة وتلاعب بالقوانين لتحقيق مآرب شخصيّة وطائفيّة على حساب المصلحة العامة، وما أدّت إليه من كوارث اجتماعية وإنسانية، ربما لن يكون آخرها الزلزال الهائل المدمّر الذي ضرب مرفأ بيروت وأدّى إلى خسائر بشرية ومادية كبيرة. هذه الظاهرة التي أفسحت المجال لطبقة من السياسيين لتسخير البلاد والعباد خدمة لمصالحها ومنافعها، دمّرت الدولة ومؤسساتها وأفقرت الشعب وأنتجت كثيراً من القبائح والأضرار والشرور وأودت بنا إلى انحطاط ومديونيّة وعبوديّة قد نحتاج لزمن طويل كي نستعيد عافيتنا وننهض من هذه الهاوية العميقة.
فإلى متى سيبقى مجتمعنا يتخبّط بهذه الثقافات وبقضايا الرجعية المتجددة في الأحزاب الطائفية الفاسدة وبتناقضاتها وآفاتها المذلَّة للشعب، والسائرة به إلى الشر والهلاك النهائي؟
إلى متى سيبقى مجتمعنا فاقداً ثقافة حكم القانون على الصيعدين الرسمي والشعبي ومفتقراً فعالية القواعد القانونية التي يجب تطبيقها في مساءلة الحاكم وتقييم عمله؟ فالفساد لا ينتشر إلا في غياب حكم القانون وضعف الأجهزة التي تتولّى تطبيقه. فلكي نقضي على ثقافة الفساد وغيرها من الثقافات الزائفة، علينا العمل على بناء القضاء المستقلّ وترسيخ ثقافة النزاهة والشفافية والمساءلة وحكم القانون وتطبيق القوانين بفعاليّة، والتي هي أضمن الوسائل للقضاء على الفساد؟
إلى متى ستصمُّ الطبقة الحاكمة آذانها عن دعوات الإصلاح الجوهري في هذا النظام الطائفي القائم على التوافق في توزيع المكاسب السياسية والمنافع الاقتصادية على أمراء الطوائف وعشائرهم؟
المطلوب، وبإلحاح، إجراء إصلاحات جوهرية، حقيقية، تؤدي لبناءِ الدولةِ الديمقراطيةِ العصرية وتقود إلى توحيد الشعبَ على أساسِ الانتماءِ لمجتمعٍ واحدٍ.. وإحدى أدوات التغيير هي إيجادِ المؤسساتِ اللاطائفيةِ الديمقراطية التي تقوم بوظائفها في خدمة الشعب ورعاية مصالحه والتي تهتمّ ببناء المواطن الصالح وبتربية الأجيالَ الصاعدةَ وترعاها فتغرسُ فيها قيم الإخاءِ القوميِّ والولاءِ للوطنِ والدفاعِ عنه.
ما نحتاج إليه هو ثقافة جديدة لإنقاذ المجتمعِ والدولة من المخاطر والأضرار الداخلية المتفاقمة.. فلا إنقاذ إلا بعقلية أخلاقية جديدة، بحركة وعي وثقافة مجتمعية تعلن الحرب على أوبئة الفسادِ والفوضى والغشِ والحزبياتِ الدينيةِ والتشكيلاتِ القائمةِ على القضايا الخصوصية الفاسدة والعقائدِ الزائفة والمبادئِ اللاقوميةِ المُنتحَلَةِ وعلى خدمةِ المصالحِ الأجنبيةِ المرتبطةِ بها…