عـن تـلك اللحـظة…*
} أولغا قدورة
حالياً أعيش مرحلة اللاشيء. لا مشاعر. لا أحاسيس. أو لربما حلّت علَيّ مرحلة العدمية. لا معنى للحياة، والناس، والعمل. لا معنى للكون والبشرية ككل (برأيي البشرية هي أكثر مشروع فاشل).
مرحلة تستوقفني فعلاً، أعيد فيها جرد أفكاري ومعتقداتي. أشعر بغضب كبير، ويأس أكبر. كنت دائما أكتب عن الأمل. أكتب عن السعادة، عن الغد الأفضل.
كبرنا على أغاني الثورة والعزة والكرامة. أغاني الحب العفيف الطاهر. أغاني الإنسان الحاضر في قلبه وحبه. قصص من كل اللغات والحضارات. الروايات والأدب العربي والعالمي. الفلسفة وفن النقد. الحق في السؤال عن أي شيء. والتشكيك في أي شيء. مساحات لبناء الذات وارتقائها. بناء الذات بعيداً عن المعتقدات والأيديولوجيات. بناء إنسان حر بالفكر والهيكل.
عن نفسي، قرأت كثيراً. بدأت أحمل على عاتقي هم الدنيا منذ صغري. وهم قضيتي الفلسطينية التي لن أبيعها أبداً حتى في مماتي. ستبقى حيّة في قبري.
اجتاحني اكتئاب في بدايات عقدي الثاني. كان نقطة تحول في مسار حياتي. حينها لم أعد كما كنت…
تضاربَ فكري ومنطقي مع ما يجري على أرض الواقع. عشت صراعاً داخلياً بين البداهة والواقع. بدأت رحلة جديدة يقودها اندفاع الشباب، وحبي وشغفي للحق ولو آذاني. أعلنت حرباً على الدين ومؤسساته (لا عن روحه) بكل فروعه وطوائفه. استقلّيت عن المؤسسة الدينية. أعلنت دولتي وصومعتي الخاصة بي. أصبحت أرى الأمور على حقيقتها، عارية من عباءة الأيديولوجيات. من دون هوس الجنة والنار والعذاب المؤبّد. شغّلْت ماكينة البداهة لتكون محركي، لا المعتقدات. ولا أكذب، لم تكن بمرحلة سهلة. كانت مليئة بالتناقضات، والمقاربات والمفارقات. كانت مفصلاً أساسياً في مساري الفكري والحياتي. مرحلة كانت الحجر الأساس في بناء دولتي المستقلة عن التبعية. بعثٌ لمرحلة بناء ذاتي.
مذ حينها، لطالما فضلت الوحدة والبعد في مواقف كثيرة، واخترت السكوت. أبتعد وأعيش في عالمي وصومعتي. لطالما عبّرت عن مشاعري وما يدور في خاطري عبر قلمي وورقتي. لا أتكلم. أكتب فقط.
هل كانت انطوائية؟ ربما؟!
هل كان خوفاً؟ ربما؟!
هل كانت قلة ثقة في النفس؟ ربما؟!
هل كان مجموع الأسباب؟ ربما؟!
أجلس في الزاوية، أندب أو أسعد، أبكي أو أضحك. حسب الموقف.
أكلم الناس وأعاشر الكثيرين، لكن لا أبدي عن رأيي في كثير من المواقف.
أختار الصمت! وأعود إلى قلمي وورقتي وأعبر عن رأيي. بات مَن يعرفني جيداً ينتظر كتاباتي ليقرأ ما يدور في ذهني.
في السنوات الماضية، وبمساعدة أختي، سندي، خرجت من صومعتي.
في السابع من أيار 2020، دخلتُ في عامي التاسع والثلاثين. وها أنا في مرحلة العدمية.
أين أضحينا!!
سياسياً. في رماد الذاكرة أصبحت فلسطين. وطبّعوا الشباب مع العدو الغاصب المحتل. ولا حياة لمن تنادي.
سورية تلملم أشلاءها.
العراق يُغتال بكاتم الصوت يومياً ألف مرة.
لبنان، كسهل البقاع، تراه جميلاً عن بُعد. لكن في الحقيقة هو عبارة عن كانتونات إقطاعية وطائفية.
مصر يا مصر، أم الدنيا، في غيبوبة، أو بالأصح غيِّبت عمداً.
اليمن مستباح…
وووووو…
طيّب..
إنسانياً. أغلب شعبي بائس، جائع، مكسور، يسقط يومياً أمام الذل والعيش المرير. يعيش على التبرعات من خلال «مؤسسات خيرية» أو من خلال «زعمائهم».
المؤسسات الخيرية (ولا أقصد التعميم لكن معظمها) الجناح الملائكي الرحيم للرأسمالية. مؤسسات تعمل بلافتة «شم ولا تذوق» (وتنطبق هذه اللافتة على معظم الزعماء أيضاً). فَلْتبقوا فقراءً جياعاً. نحن هنا لنَجْدتكم. لن نوفّر لكم سبل حياة كريمة، لكي تبقوا متسولين شحاذين مقيتين وعبيداً. نحن نسرُقكم ونجوّعكم ونعطيكم كفاف يومكم!
والأفظع منها، رابطة المؤسسات الدينية بمختلف طوائفها. التي تستغل الطيبين والبسطاء. من ليس لديهم إلا «خلّيها على الله»، «الله الحامي»، «الله كريم»، «الله موجود» ليُؤمّنوا قوت يومهم، علّهم يعيشون إلى غدهم.
رابطة المؤسسات الدينية مع الرُّتب:
«الله السنة أفضل»
«الله الشيعة أفضل»
«الله الموارنة أصح»
« لا الله الكاثوليك هو الأساس»
« لكن الله روم»
« الله الدروز الأحق»
«من قال هناك إله؟»
« الله الله الله الله»…
وأقول:
«عمِلّتوا شمّاعة لربنا. ربنا استقال من وظيفته من فظاعتكم!». حروب وجشع وطغمة. وَكَّلتم أنفسكم عنه. على عرشه استوليتم.
نعم ام لا؟ ولماذا؟ من أجل ماذا؟
طيب.. وبعده..
أسئلة كتبتها في مقال سابق في أيلول 2014 تحت عنوان «قوارب الموت».
«من أنتم؟
من أنتم لتسلبوا كرامتي وتقيدوا حريتي؟
من أنتم لتكتبوا قدري وتغتصبوا أحلامي؟
من أنتم لتقتلوا نفسي وتمحوا وجودي؟
من أنتم لتطفئوا قناديل المحبة والإنسانية وتسرقوا الأمل؟».
وما زلت حتى اليوم أنتظر الإجابة..
أجيبوني؟ أجيبوني؟؟
وضعنا الحالي.
تقولون «الله كريم» طيب «ونعم بالله»..
تقولون «الله ما بينسى حق حدا» طيب «رحماك يا الله»..
تقولون «لكل ظالم نهاية»
«كتير حلو!» ويأتي مَن هو أسوأ وأشد ظلماً منه.
وماذا نفعل؟
نعيد..
تقولون «الله كريم» طيب «ونعم بالله»..
تقولون «الله ما بينسى حق حدا» طيب «رحماك يا الله»..
ونعيد، ونعيد، ونعيد، ونعيد…
في هذه المقالة أكتب عن أمرَين.
أولاً، عن تلك اللحظة، التي لا أنتمي بها الى شيء. تلك اللحظة، عندما تسقط كل الأمم والأديان والبشرية أمام عتبات الزمن.
لحظة، تكون جنسيتي جنسية البؤس والفقر، جنسية المظلوم، جنسية المنكوب. جنسية الميت سريرياً في حياته التي يفنى فيها كي يسعى إليها سبيلاً، ويعيِّشونه من خلال أنبوب «قول الله! أنت أحسن من غيرك».
اللحظة التي أتجرّد بها من قوميتي، لأبعثرها في الهواء، علّها تحيي قلوباً لا تنبض، وتزرع بصراً في من لا بصيرة له.
اللحظة التي أتوق لقلبي أن يعانق كل وحيد وجائع، كل يائس وبائس. كل أم وأب وطفل يعيشون على أنقاض بيوتهم. وفي الوقت نفسه تنبثق منه أشعة فاتكة، تفني جبروت الظالم والمعتدي، جبروت الخائن والعميل، جبروت الجشع والمحتال. أشعة تفتك بمن يسعى لتحطيم من له حق العيش، كل من أطَّرنا في حياة المذلات والإهانات ومسح الكرامات. كل مَن فرض علينا موتنا المحتم.
قلب أشعته تقتل كل هذه الجراثيم.
أنتم الفيروس، أنتم من وجب أن يفنى، لا نحن.
ثانياً، عن أساليب التنويم المغناطيسي، وعن أساليب التبعيّة وتنميل العقل. بل إسكات العقل، وشلَّه عن التفكير. من المجازر الفكرية التي ارتكبت فيه. قتل خلياه الى أبد الآبدين.
اغتيلت الكلمات والأفكار….
أعدمت البداهة….
أنا لا أستهين أو أقلل من شأن الرب. فقط أسرد واقعاً مقيتاً. مسلسل حياتي أزلي وأبدي بأجزاء لا تنتهي. أحداثه متكررة. تُعاد فبركتها عبر القرون بحلّة جديدة وسيناريو يواكب العصور.
مسلسل فصل الدين عن الروح وتأميمه لخدمة مصالح الأنظمة، لطمس البشر ومسح الكرامات. مسلسل الاقتصاد والرأسمالية لتأطير الناس في العيش الذليل.
عبودية بثوب معاصر!
الإنسان حرّ يا جماعة. والدين روحانية. وبالعامية أقول» ملعون أبو الخوف والذل الذي أصبح جزءاً من تكويننا، مزروعاً في جيناتنا» نورثها لأجيال قادمة!
إلى متى؟ إلى متى…
*مقال مكتوب في 7 أيار 2020.