حارس الجولان وكبسولة النصر والامتناع في سجن جلبوع
} صابرين دياب
الرابع عشر من آب أغسطس، يوم مجدنا الموعود والموروث عن أمجاد موطننا العربي، تحت كنف سيد مرحلتنا وقائدها..
يغتبط ويتهلّل به، ذوو الكرامة والأنفة، فوق كل أرض حرّة وعربية، وفي طليعتها الأرض المحتلة، في الجليل والجولان، حيث القهر والبغي، والجَبر والجور، والسَخْف والضيم، حيث الموت بأشكاله وألوانه في كل يوم، وجدران السجون الكبيرة والصغيرة، تُشيّد وتتزايد فتتسلّط.. وحيث الأمل المكلّل بالكرامة، في رنين صافرات الإنذار، وهيبة طلّة ذي العمامة السوداء!
هناك شمال فلسطين، على مقربةٍ من بيسان، في سجن جلبوع، نُسجت في ديسمبر كانون الأول عام 2010، أبهى حكاية انشراحٍ ومسرةٍ بالنصر الإلهي، واوضح رسالة لـ آل النفاق والتبعية، عبر كبسولةٍ، سُرّبت الى خارج جدار السجن، الى بيسان المحتلة، فإلى كل الأحرار.. حملت عنوان مقال “كلمة لا بد ان تُقال”.. صاغها حارس الجولان الحرّ العصي، بدم قلبه وبحبر رفقائه المسرّب على ورقة دقيقة وصغيرة، لا تتسع إلا لبضع كلماتٍ، بيد أنّ عزيمة الرجال حين تتوهّج، تُحقق المراد، فحقق الحارس الأمين مبتغاه، وتمكن بالإرادة والحب، والعناد والجهد المضني، من إيصال كلمته، ورُصّت الورقة الدقيقة بكلمةٍ، اتسعت لألف كلمة وأكثر. بكلمة لا تشبه كلمات الآخرين، كلمة تنطُف حميةً وشكيمةً وصدقاً ووفاءً، وتنصّ بالمعنى الجذري والأصيل للعصمة والإباء..
فيطوّقنا السؤال الأبهى!
هل ثمة حلاوة، اجمل واطيب من فرحة مقاومٍ، داخل جدران سجنه!!؟..
لا تخامرني نأمة شكٍ مهما تفهمت، أنّه لا يوجد شَممَ وكبرياء، أرفع من شموخ مقاوم حقيقي وهو يتلقى عقاب ظلّامه، لأنه ابتهج !!
لم يبال حارس الجولان بعقاب “الشاباك” له، بل استقبل أمر عزله في السجن الانفرادي لمدة عشرة شهور، في اشد سجون الوطن المحتل قبحاً، في سجن بئر السبع، انتقاماً من مقال النصر المسرّب، ببهجة وعزّة أشد، وبإيمان عميق بالحرية، وشارة النصر التي لا تنكّس..
تحية بحجم القدس والألم، لصدقي المقت، أخي الذي لم تلده أمي، الذي أسعدني بطلب إعادة نشر كلمته وتقديمها، في أي يوم اختاره من ايام حرب تموز، وقد اخترت يوم النصر، ليزداد امتناعاً بكلمات حارس الجولان العصي، وأكون بذلك قد شاركت بالاحتفال مع صحيفتي وصدقي وكل الأحرار، بأجمل الصور..
{ وإليكم ما جاء في كبسولة الإباء في ديسمبر عام 2010 :
كلمةً لا بدّ أن تقال
صدقي المقت
كبير ومجيد، الانتصار الذي حققه حزب ألله في حرب تموز، فقد حملت ارض لبنان ومشهده المقاوم، كل مقومّات النصر الأسطوري، إذ تكشّف المشروع الإمبريالي الصهيو – أمريكي في بؤرة ضيقة، حدودها المقاومة، وفي زمن لا يقبل أي توقيت، إلا إذا كان مضبوطاً على ساعة واشنطن وتل أبيب.. وفي مكان أريد له أن لا يتسع إلا لقطيع من الأغنام، يُساق الى الذبح والمسلخ، دون أن يملك أي قرار في الاعتراض على لون وشكل السكين، ولا حتى على طقوس الذبيح.
في وجه كل ذلك وقف حزب الله شامخاً عزيزاً، محطماً بنود المشروع الأمريكي ومعلناً ميلاد تقويم جديد، على إيقاع ساعة بيد مقاتل في بنت جبيل ومارون الراس وعيتا الشعب، هناك في ذاك المكان الذي لن يتسع بعد الآن إلا للشرفاء وأصحاب الكلمة والإرادة الحرة، هناك حيث سالت الدماء الطاهرة لترسم من جديد معادلة وقوانين الصراع، هناك حسم كل شيء، فلا ثقافة بعد الآن إلا لثقافة المقاومة، وأي كلام بعد الآن ليس فقط فارغاً وتافهاً، بل ساقط ومشبوه، إن لم يعبر عن إرادة وفكر وثقافة المقاومة.
انتصر حزب الله، وانتصرت معه المقاومة في فلسطين والعراق، وانتصرت كذلك سورية قيادة وشعباً، سورية المندمجة فكراً وثقافة، عسكرةً وسياسةً ونضالاً، مع كل تفاصيل ما حدث على أرض الجنوب.
وانتشت الشعوب العربية التوّاقة للكرامة بالانتصار العظيم، وكان التماهي والتفاعل الشعبي العربي، مع هذه الحرب بوجدان وضمير حيٍ لم ولن يموت.. وانتصرت أيضاً إيران الحليف القوي الذي يشكل عمقاً استراتيجياً لا بد منه في صراعنا مع “إسرائيل”، وبالمقابل، هُزم الكيان الغاصب عسكرياً وسياسياً ومعنوياً، وهُزم المشروع الأمريكي.. لا بل أكثر من ذلك، فقد هُزمت “إسرائيل” أمام أمريكا عينها، وما عادت قادرة على تسديد فاتورة الحسابات الأمريكية في المنطقة. وهذا ما تجلّى بكل وضوح أثناء الحرب، عندما كانت تصّر وزيرة الخارجية الأمريكية، على مواصلة القتال، في حين أن تل أبيب، كانت تستجدي إنهاء الحرب والتستّر على فضائح هزيمتها النكراء.
وما بين نصر حزب الله وهزيمة تل أبيب، يُطرح السؤال الأليم: أين كان العالم العربي؟ أين كانت نخبُه السياسية والثقافية والدينية؟! أين كانت قواه السياسية والإعلامية؟!
أسئلة كبيرة وملحّة، تتطلّب أجوبة من معقل العقل الرصين والضمير الحي بدون هِتر ومداهنة، فعندما يراق الدم، يصبح الصمت مشاركة والصامتون مشاركين في الجرم!
وما دعانا للتوجّع أنّ هناك في أماكن عديدة من الوطن العربي، استدخلت الهزيمة واستوطن الانبطاح، وبقدر ما كان النصر قوياً وكبيراً ومحط فخر واعتزاز، كانت تبعية بعض العرب محط احتقار ومثار للتقزز، ذلك أنه وقبل كل شيء، يشي بسقوط طبقة سياسية، تحكم معظم البلدان العربية، طبقة ليس لديها أي مشروع وطني حقيقي، ولا تملك أي مبرر لوجودها ولشرعيتها سوى تلقيها التعليمات الصادرة من واشنطن وتل أبيب واللهاث وراء تطبيقها، طبقة سياسية انفصلت عن مصالح شعبها وهمومه، ووضعت نفسها في خدمة المشروع الأمريكي الصهيوني المعادي، وسقطت سياسياً ووطنياً ومعنوياً وأخلاقياً، كمقدّمة لسقوطها الفعلي والعملي، وإلا ماذا نفسر لهاث بعض الحكام العرب لأجل الإفراج عن الجندي الإسرائيلي الأسير في قطاع غزة، في حين يوجد في السجون الإسرائيلية ما يزيد عن عشرة آلاف مناضل، ومنذ عشرات السنين؟! كيف يُفسّر تكالب الطبقة السياسية ذاتها على تجريد حزب الله من سلاحه وإضعافه، في حين أن تل ابيب، تخزّن أكبر ترسانة سلاح حتى النوويّ، تبطش وتقتل الشعوب العربية منذ نشأتها وحتى الآن، من دون أن تحرّك تلكم الطبقة السياسية ساكناً، واذا تفوّهت قست على الضحية، وتكون في غاية الوداعة مع المجرم الإسرائيلي، فهي ذات العينة التي شاركت في حصار العراق وغزوه وقتل شعبه.. وتبرع الآن في حصار الشعب الفلسطيني وتجويع أبنائه وتطعن بظهر مناضليه.. وتنهب ثروات الوطن العربي وتعبث بمستقبل أبنائه.. لم تترك أي رذيلة او جريمة وطنية وقومية وإسلامية بحق هذا الوطن العربي الكبير إلا وارتكبتها.. وعندما بدأت المعركة على أرض الجنوب، وقفت تنتظر الخلاص من ذلك (الهم) الذي يرعبها ألا وهو حزب الله.. وقفت تنتظر الخلاص الذي سيأتيها من كيان الاحتلال الغاصب، ويريحها من هذا الكابوس الذي يزعج نومها وأحلامها ويكشف عورتها.. انتظرتها أوساط سياسية عديدة وفي أكثر من مكان من الوطن العربي، في الرياض والقاهرة وبيروت وعمان وغيرها الكثير… معركة طالبوا تل أبيب بأن تقوم بها نيابة عنهم…
هو ذات الدور الذي لعبته هذه الثلّة في الماضي، لكن هذه المرة خرجت الى العلن وما عادت تخجل من نفسها ومن شعوبها، لقد تعرّت كلياً وما عاد بالإمكان إخفاء عورتها وعهرها ودعارتها، خرجت تعلن ولاءها ودعمها لتل أبيب، حسبت حساب كل شيء، لكنها أخطأت في مسألة بسيطة جداً وهي أن النصر لن يكون حليف تل أبيب هذه المرة… وهنا تغير كل شيء… وبدأت أحجار الدومينو تتساقط… جمعتهم أمريكا وتل أبيب كي يكونوا أبطال المرحلة القادمة… وفي منعطف تاريخي أزال الجنوب اللبناني الأقنعة عن وجوههم… فظهرت الحقيقة وتبين إن وراء تلك الأقنعة وجوه وأسماء لها تاريخ طويل في الخيانة والتواطؤ والتبعية للأجنبي وخدمة مصالح تل ابيب والطعن بمصالح الشعوب العربية..
سقطت الأقنعة، وقريباً سيسقط أصحابها أيضاً..
لا أدري، وأنا جالس على سريري داخل السجن، ووسط هذا الكم الهائل من السقوط والخيانة.. كيف سيطرت عليّ فكرة أن أوجه هذه الرسالة المفتوحة الى الجنرال ديغول:
)أيها الجنرال ديغول… يا محرر فرنسا من الاستعمار النازي… ليتك اليوم على قيد الحياة لترى كيف حفيدك في الاليزيه يحتضن أحفاد العجوز (بيتان) الموجودين في لبنان وغير لبنان وهم كثر… أنت أيها الجنرال يا من أدخل (بيتان) الى السجن بتهمة الخيانة العظمى… تعال وشاهد كيف تحوّلت فرنسا الى مأوى لأحفاد (بيتان) من لبنان والعالم العربي… لقد هزمك (بيتان) لأن خيانته كانت أقوى من رسالتك في تحرير فرنسا… ومن رسالتك في الحرية)…
ولم يقتصر السقوط على الساسة فحسب، بل شمل شريحة واسعة من المثقفين والباحثين والكتاب والخبراء العرب.. شريحة ملأت الدنيا ضجيجاً وهي تتحدّث وعبر سنوات طوال بكل قضايا الدنيا.. فئة تدّعي إلمامها بكل شيء من تنوير وحضارة وحداثة وعولمة وفكر وثقافة واقتصاد وكل شيء.. أسماء ووجوه ملأت شاشات التلفزيون بأوصاف عديدة، إما باحث أو كاتب أو خبير الخ… وعندما وقعت المواجهة الكبرى على أرض الجنوب المقاوم غاب الكتاب والباحثون والخبراء والمحللون في غالبيتهم… كل ارتمى في حضن الطبقة السياسية الساقطة، صمّت آذانهم وقطعت ألسنتهم… غابوا واختبأوا عندما بدأ الرصاص يتكلم… وما عادت شاشات التلفزيون تتسع إلا لبطولات المقاومين ولصور جرائم الاحتلال.
ثالثاً.. سقوط شريحة واسعة من علماء الدين الذين كانوا يفتون بكل أمور الدنيا والآخرة، وبكل أحوال الأمة، وعندما كانت الأمة في خطر أثناء العدوان، أفتى هؤلاء العلماء من تل أبيب وواشنطن الى الجهاد ضد الشيعة.
رابعاً: سقوط أسماء ومؤسسات وجمعيات حملت عناوين ومبادئ عريضة مثل (الديمقراطية)، حقوق الإنسان والمواطن/ الحريات/ الأقليات.. لسنوات طوال يملأون الدنيا ضجيجاً… وعندما وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام جرائم الاحتلال في لبنان.. أداروا ظهورهم لها، لأن ذلك خارج ما هو محدد لهم، وما هو مسموح لهم أن يتكلموا به… ممنوع عليهم الاقتراب من تلك المناطق المحرمة… لقد سقطوا جميعاً في هذا الاختبار…
لا أدري وأمام هذا السقوط المتعدد والمدوي وفي أكثر من مكان… إن كان عصرنا هو عصر البطولات أم عصر السقوط…
أنا ابن جيل ولد عام 1967، وأمضيت أكثر من نصف عمري وما زلت في السجون الإسرائيلية، أمضيت عمري بكامله، وأنا أحلم بانتصار على تل ابيب، وعندما تحقق هذا الانتصار الذي طال انتظاره، دأبوا على خنقه وقتله ورفضه والتآمر عليه.
لا… لن نسمح بذلك.. لأن المقاومة في الجنوب بانتصارها المدوي، أعلنت ميلاد تقويم جديد… تقويم لا مكان فيه للضعفاء والجبناء والخونة، زمان وجغرافيا لا يتسع إلا للشرفاء والمقاومين وأصحاب الإرادة العربية الحرة… وأصحاب الضمائر الحية… لا ثقافة بعد الآن إلا لثقافة المقاومة…
قبل أن نقرأ أي كتاب سنسأل، أين كان كاتبه أثناء العدوان؟ وسنتحقق من موقفه؟ وعلى ضوء البحث والتمحيص، سنقرّر إن كنا سنقرأ الكتاب أم نرميه في أقرب حاوية؟ وقبل أن نستمع لأي محلل أو باحث أو خبير أو مفكر، سندقق بالأسماء، وبعدها نقرر إن كنا سنستمع إليه أم نغير محطة التلفزيون لمشاهدة أفلام كرتون، لأنها في هذه الحالة أكثر فائدة مما سيقوله ذاك الساقط، وقبل أن نستمع لأي سياسي سنفحص أين كان أثناء العدوان وماذا كان موقفه، بعدها سنقرّر اذا ما كنا سنصغي إليه باحترام، أم سنغلق شاشة التلفاز! وما أجل، سندقق بالأسماء، والأحزاب والصحف والمؤسسات والجمعيات والشعارات والإذاعات ومحطات التلفزيون، سنسقط منها من أضاع البوصلة، أما من حافظ عليها وصانها فهم شرفاء هذه الأمة وضميرها الحي.
وأخيراً…
الى أبطال المقاومة… صانعي هذا الانتصار العظيم… أكرر مقولة للإمام علي كرم الله وجهه: (لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه).
فبالرغم من كل هذا السقوط والوجع… بيد أن جماهير الأمة العربية تلتف حولكم وتتوج رأسها بكم… وانتصاركم هذا هو ميلاد عهد جديد…
لكم التحية يا أشرف الناس.
معتقل الجلبوع 22/12/2006
{ صدقي المقت: أسير جولاني في السجون الإسرائيلية منذ 21 عاماً”.