من قلب المخيم.. سلام لبيروت
} هنادي لوباني*
تحت سماء تورنتو الفسيحة وهوائها الطري النقي، يأسرني مشهد رهيب مهيب. دخان حريق تبعه دوي مُصمّ اندفعت منه سحابة فطريّة بيضاء ساطعة كضوء القمر. تطايرت من جوفها حمم أرجوانيّة أطفأت في غمضة عين بهاء سماء فيروزيّة بأعمدة من دخان رماديّة حجبت وجه الشمس. تطاير اللهيب ولم يرحم أحداً. تراكضت رياح تسوق خصل غيوم مشعّثة تمطر وابلاً من بلور يتكاثف مزيجاً من سيل وعاصفة وظلام. ليل ثقيل خيّم على بيروت وسدّ كل نافذة مفتوحة في السماء. اتسعت الكارثة لملحمة بشريّة من الدمار والخراب والدماء ومتتاليات من الصراخ والهروب والحزن والخوف والتعجّب والرعب والألم والحيرة والسؤال. دمار في كل حدب وصوب، عجّت الأرض بالأموات وتلطّخت المباني وجدران المنازل ببقع الدم وبدموع نبتت في عيون الأيتام وفي محاجر نساء منكوبات فوق ما تبقى من أثاث.
اليوم هو الثلاثاء 4 آب 2020. أراقب المشهد وأعيشه عن بُعد وجسدي يرتعش كما الشجيرات والبراعم البرية على سفوح بيروت وهي تتدلى من بين الصخور. أراقب المشهد عن بُعد وعقلي لا يستوعب ما أراه.. فكان الانسحاب. أطفأت التلفاز وارتديت وتلاشيت في أفق بعيد. أغمضت عينيَّ ورددتُ «من قلبي سلام لبيروت.. وقُبلٌ للبحر والبيوت..». كلما فتحتُ عينيَّ يتكرّر المشهد أمامي مئات المرات، وكأنه فيلم لم نملّ كمشاهدين من إعادة عرضه. يأتيني صوت جدتي: «الموت ما بيشبع.. موت ورا موت بلحقه موت». أحاول أن أهرب من صدى صوتها.. لا أعرف إلى أين. لا أريد أن أتحوّل إلى حارس مقبرة تراه ينفث سيجارته وينتظر الموت يومياً، وتُراني مثله أحفر في طين ذاكرتي قبوراً لموتى يضجّ سكونهم صخب العبث الذي أوصلني كلاجئة تترنّح على حواف الكون.. عبث صار مع الوقت أليفاً.
أفتش عن شيء آخر.. عن ذكريات جميلة أو قصص بريئة أو صور فرح كأول الربيع ناعم ينبت خضرة تتسع من تحت طرحة الثلج والصقيع. عاد إلى ذاكرتي خبر ذوبان النهر الجليديّ في سلسلة جبال مونت بلانك في أوروبا، وكيف أدى إلى نبش صحف هنديّة مدفونة هناك لمدة ٥٤ عامًا – حمل بعضها عناوين مثل «أول امرأة رئيسة وزراء في الهند»، في إشارة إلى فوز انديرا غاندي في الانتخابات. الصحف من بين بقايا طائرة للخطوط الجوية الهندية التي تحطمت في 24 كانون الثاني 1966 في مونت بلانك منهية بذلك حياة 177 ضحية من طاقمها وركابها. أصوّر المشهد في ذهني: أوراقٌ تتطاير مع الرياح كسرب هارب من غياهب النسيان ومقابر التاريخ، تتقلب متراقصة فتتناثر في كل الأركان أشباح دونما وطن، خارج خرائط الزمن، دون أوراق.
يتلبّسني المشهد، يتحول إلى حركة كاميرا داخل رأسي تصوّر الحدث من دون احتجاز الزمن وتثبيت تدفقه وسيلانه. ذاكرة تنبش ذاكرة.. ذاكرة تنهض من رحم ذاكرة، تقلقها، تجول في ضفافها المسكونة بالنسي والتناسي، تتجسّد بها صوتًا حاضرًا لجثث أضناها الصمت والغياب.
أحاول أن أهرب.. لا أعرف إلى أين؟ هل أهرب خارج أزمنتي؟ هل أتسكّع على الأرصفة كي لا يقتات الموت على آهاتي المشروخة وحتى لا ينحاز الخوف الذي يركض في أعماقي لفكرة كبر الموت على حساب الحياة؟ في زمن الكورونا، سأسرح في شوارع الكلام وبين متاهات اللغة. تصادفني مقالة عن شبان وصبايا ورجال فلسطينيين اتحدوا يداً بيد مع طواقم الدفاع المدني والهلال الأحمر الفلسطيني ليساهموا في البحث عن الجثث ورفع الأنقاض. حملوا المكانس والرفوش وهم يتنقلون بين الأبنية والشوارع، افترشوا الخيم وأتوا بالمساعدات من طعام وألبسة علهم يخففوا الوطأة عمن يبكي على عزيز أو على جنى العمر أو على ملاذه الآمن. هبّوا من مختلف المخيمات ليلملموا جروح بيروت المذبوحة وجثثها المحترقة تحت السماء وعلى الأرض وفي قاع البحر وتحت البنايات في المنارة ومار مخايل والجميزة والأشرفية والكارنتينا وبرج حمود. يعملون بصمت في وجه الموت والدمار. صمتهم ليس رفاهية في وجه حزن الضحايا المطعون بالاتهامات والقهر والأسئلة: ما المصير؟ أين سنسكن؟ لماذا حل بنا هذا؟ صمتهم هو غصة المحاجر بآلام الناس والصرخات المكتومة في صدور الأمهات..
هو حكمة من قاسى الوقوف على العتبة بين الضمير وبين حطام الحقيقة وغثاء العبث والجنون والضجيج.. هو لحظة خشوع لمصداقية المشاعر والأحاسيس التي لا تتعجّل النهايات ونزف البدايات.. هو الحداد على كل الأرواح التي تجوب الشوارع وعلى مَن نامت أجسادهم تحت الحطام لا من باب العاطفة بل من واجب الحضور والمسؤولية.. هو وقفة عز لأبناء شعب اعتاد الاقتلاع والتهجير والمؤامرات والخذلان والوقوف على خط النار والسير بين قنبلتين وتحت الصواريخ وحدّق في وجه الموت المتسلسل من مجزرة السبت الأسود إلى حولا وقانا الأولى والثانية والكرنتينا والشياح وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا و…
ترى مَن ناداهم؟ أمحمود درويش وهو يعود من موته وينادي على بيروت أن «اضحكي.. مرة أخرى وقولي نحن مازلنا على قيد الحياة». هل شدّ على أيديهم وهو يدمع وينشد: «سنوقظها ونُخرج من خلاياها ضحايانا سنغسل شعرهم بدموعنا البيضاء لن نغادر ساحة الصمت سنفديها ونفديكم»؟ هل اقتفوا خطوات معين بسيسو وهو ينفض عنه الموت ليجوب شوارع بيروت ومستشفياتها وأحيائها ويقول: «انا أقطع كفي وأرسلها لك يا بيروت برقية»؟ تعود صور قديمة.. ذاكرة تنبش ذاكرة.. ذاكرة تنهض من رحم ذاكرة، تقلقها، تجول في ضفافها المسكونة بالنسي والتناسي، تتجسّد بها صوتًا حاضرًا لجثث أضناها الصمت والغياب.. هل الذاكرة نعمة أم نقمة؟
عاد الشباب والصبايا والرجال من برج حمود إلى المخيّمات بصمت. صمتهم ليس مهانة.. هو وقفة عز في وجه جرعة كبيرة من فقدان الحس والإحساس.. صمت من جرّب مرة تلو أخرى كيف تفقد بوصلة الحزن اللبناني وجهتها وتصوب خيالها الطائفي الطافح بالعنصرية في وجه الفلسطيني الآخر في مهرجانات من الحماس الزائد وهستيريا القتل البدائي وثقافة الكراهية والعنصرية والتباكي والعويل والصراخ وركوب موجات الاستنكار والاستثمار والاستهلاك الذي لا يخلو من الاستهتار أو الشماتة أو التشفي أو الجهل أو ما يفوح برائحة الغدر والخيانة والعمالة.. صمتهم هو بلاغة النخوة والشهامة الفلسطينية من علم لبنان على كنيسة البشارة في الناصرة إلى أكياس الدم المتدفقة من غزة إلى أسير في صحراء النقب يهدي قوت أولاده لبيروت.. صمتهم هو خفق القلب وغضّ البصر نحو الأرض إجلالاً واحتراماً وإصراراً على متابعة معركة الحق.. هو عهد انتماء ووفاء ومحبة لأم الشرائع وست الدنيا والمدينة التي لا تموت وشكل الروح في مرآة الوجدان الفلسطيني ولو كره الغاصبون.. هو مهارة التأمل ومصدر إلهام للتفكير في ما وراء لغة وعقلية الساسة وأمراء الحرب والطوائف وفتح طرق الخيال والفكر في تحوّل الحياة.. الصمت كمقاومة.. كلحظة انتصار الخيال وإن جار علينا الزمان..