ما أحوجنا اليوم إلى المُصلِحين الصادقين والعصاميّين
د. ادمون ملحم
أين نحن من الدولة الديمقراطية العصرية، دولة المواطنة والقانون والمؤسسات، المعبِّرة عن إرادة الشعب والساهرة على تحقيق مصالحه وتأمين عيشه ورفاهيته وسعادته في الحياة؟
أين نحن من الحياة الكريمة اللائقة التي نتوق إليها؟
هل سنحقق يوماً الهدف الأسمى: بناء مجتمع موحّد وراقٍ، نحيا فيه بحرية وكرامة وعدل ومساواة برعاية دولة عصرية ديمقراطية لا طائفية، ترعى مصالح الشعب وحقوقه وتؤمّن له الحياة اللائقة وسبل التقدم والارتقاء؟
إن الديمقراطية والإصلاح والحداثة والتغيير وغيرها من الشعارات البراقة التي تَعِدُ بإقامة مجتمع راقٍ تسود فيه قيم الحرية والحق والعدالة والمساواة وينعم أبناؤه بالأمن والطمأنينة والسلام.. هذه الشعاراتُ والقيم النبيلة أمست كلها أحلاماً بعيدة المنال في ظل ما يشهده لبنان من انقسامات وتفسخ وتيارات سياسية ومذهبية متصارعة وما ينتشر بين أبنائه من اعتقادات وأوهام وعصبيات مذهبية وثقافات انحطاطية، سلبية، تشكل حاجزاً منيعاً امام طموحات هذا الشعب في الحياة الكريمة.
والموضوع الأكثر رواجاً الذي تدور حوله أحاديث اللبنانيين والذي يشغل بالهم وتفكيرهم وتنصبُّ عليه الكتابات والتحليلات هو موضوع مرض الفساد والفاسدين الأنانيين وما أنتجه هذا المرض من أزمات سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية ومن فضائح ومآسٍ وكوارث إنسانية لا تنتهي.
لقد أمسى الفساد في لبنان عقيدة متأصِّلة في صلب النظام السياسي الطائفي ومستشرياً في هذا المجتمع المتشلّع والذي بات خالياً من قيمه وفضائله.. فماذا نقول عن جرائم الفساد المنظَّم التي تمنع قيام الدولة الديمقراطية الحديثة، دولة القانون والمؤسسات، التي تحمي المواطنين وتصون حقوقهم وحرياتهم؟ ماذا نقول عن الفساد السياسي وعن المُفسدين من أمراء الحرب والمال والطوائف وتقاسم النفوذ والمحاصصة في ما بينهم وسوء استخدامهم السلطة لمصالحهم الشخصية والعائلية والمذهبية؟
ماذا نحدّثكم عن قراصنة الفساد المالي والإداري والأخلاقي وعن هدرهم للمال العام وسرقاتهم وإثرائهم اللامتناهي؟… هل نتحدث عن “التوافقية” على الحصص والمنافع بين المرجعيات الطوائفية والمذهبية والعشائرية وعن عبثها بمواد الدستور وأحكامه؟.. هل نتحدث عن الديمقراطية الكاذبة وعن لبنان المزرعة المسيَّجة بأسوار الطائفية والإقطاعية والانعزالية والمحروسة بالمافيات اللصوصية وبشياطين الفساد والإفساد الذين يستبيحون البلاد؟
الحديث عن الفساد قد يطول إذا ما أردنا ان نتطرق إلى عمليات التزوير والتهريب والاختلاس المالي المنظَّم والمقونن وإلى المحسوبيات والهدر والفضائح في العديد من ملفات الغذاء والكهرباء والجمارك والنفايات والأدوية والمستشفيات والإنترنيت والمرافئ والتهريب وغيرها من الملفات في كل مرافق الدولة ومفاصلها.. وكارثة مرفأ بيروت هي خير دليل على ما نشير. وللاختصار، نقول: إن السياسة اللبنانية برمتها قائمة على الفساد.. وهذا المرض المُزمِن أمسى ثقافة عامة وظاهرة مستفحلة تزيد في مديونية الدولة وتساهم في انحلالها وتقود المجتمع بأسره إلى الهلاك النهائي.
اللبنانيّون تعبوا من النفاق والتدجيل ومن شعوذات السياسيين العاجزين الذين يكتشفون الكوارث بعد وقوعها..
اللبنانيون لا يثقون بعد الآن بسماسرة هذا النظام الإقطاعيين، النفعيين، الذين احتقروا الشعب ونهبوا أمواله وتلاعبوا بمقدراته وداسوا على أمانيه بأقدامهم.
اللبنانيون يريدون الإنقاذ الفعلي.. ولكن ما هي السبل الكفيلة بالإنقاذ؟ وكيف يمكن إصلاح هذا النظام؟
برأينا، إن الخطوة الأولى في إصلاح النظام الطائفي الذي يشرعن الامتيازات الطائفية تكون باستحداث قوانينَ عصرية تقضي على الطائفية وتمنعُ نشوءَ الأحزابِ والجمعياتِ السياسيةِ الطائفيةِ وتضع حداً لقوى الباطل والفساد والاستبداد وللطائفيين والعملاء والنفعيين والمحتكرين لحقوق الشعب وثرواته.
ما نحتاج إليه اليوم هو التشريعُ الفوري لقانونٍ انتخابيِّ عصريِّ يعتمدُ لبنانَ دائرةً واحدةً على قاعدةِ النسبيةِ وخارج القيد الطائفي واعتمادُ تشريعٍ وقضاءٍ مدنيين يتساوى أمامهُما جميعُ المواطنينَ في أحوالِهِم الشخصيةِ وحقوقِهِم العامة.
المطلوب هو الإصلاح الحقيقي الذي يأتي بالأُسسَ الواضحةَ لبناءِ الدولةِ الديمقراطيةِ ويقود إلى توحيد الشعبَ على أساسِ الانتماءِ للدولة والوطن لا للطوائف والعشائر والعائلات.ٍ.. وإحدى أدوات التغيير هي إيجادِ المؤسساتِ اللاطائفيةِ التي تعامل الناس بمساواة ومن دون تمييز وتسهر على سلامة المجتمع وتعزيز فضائله وقيمه الجميلة.
الإصلاح لا يكون بتبادل الأشخاص في الحكم، وبمجيء أشخاص مستائين يحملون القضايا العقيمة ذاتها ويمثّلون تيارات طائفيّة وصوليّة لم تقدّم برهاناً واحداً عن إنجازاتها الإصلاحية، بل يكون برجال دولة حقيقيين وبمُصلِحين صادقين، وأخلاقيين، وجريئين، لا “يبيعون الشرف بالسلامة ولا العز بتجنب الأخطار».
ما نحتاج إليه هو حركةَ إنقاذ فعلي تحمل قضية الشعب وتقدّم رؤى جديدة في الإصلاح المناقبي– النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقضائي وتسير بالبلاد في طريق النهوضٍ والرفاهية والبطولة والمجد.
المطلوب هو حركة إصلاحية، نهضوية، لا تهادن الفاسدين ولا ترضى بإذلال الشعب ولا تسكت عن الظلم والاستبداد وعدم الإنصاف، حركة إصلاحية – هجومية تعلن الحرب على الفسادِ والنفاق والمثالب وكل القضايا الفاسدةِ التي تعرقل تقدم المجتمع وتعطل وحدته.
ما أحوجنا اليوم إلى رجال الإصلاح الحقيقي، إلى النهضويين – المناقبيين، المُصلِحين والمتسلّحين بالمبادئ الصحيحة والبرامج البنّاءة الهادفة تحقيق الخير العام وبناء المجتمع الأمثل.
ما أحوجنا اليوم إلى المُصلِحين الصادقين والعصاميين، الذين يسعون بأفكارهم الصالحة لخير المجتمع وتقدّمه ويبذلون مساعيهم لبناء الدولة المدنيّة العصريّة حيث الانتماء الأول فيها هو للوطن وحيث القانون هو الضامن للعدالة والمساواة ولحقوق المواطنين.
وما أحوجنا اليوم إلى عقيدة الإنقاذ الروحيّة – الفكرية – المناقبية التي جاء بها رائد الإصلاح الاجتماعي والسياسي والإقتصادي وجسّدها بحركة إصلاحية – نهضوية شاملة سعت إلى تطهير المجتمع من الفساد والفوضى والمثالب وأرست أسس الدولة العصرية الديمقراطية اللاطائفية.
ما أحوجنا اليوم إلى رجل الإصلاح الفعلي الذي أطلق الحركة الإنشائية العظمى “التي حاربت في سبيل الشعب كله لا في سبيل طائفة من طوائفه»..
ما أحوجنا اليوم إلى باعث النهضة القومية العظيمة: أنطون سعاده.