في قرار المحكمة الدوليّة بين السياسة والقانون
ناصر قنديل
– لم يتغيّر شيء من حقيقة كون المحكمة الدولية أداة من أدوات السياسة الدولية في لبنان، كما كانت من قبلها لجنة التحقيق الدولية، وقد بشّر جيفري فيلتمان عشية صدور الحكم بأن التفجير الذي أدّى إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري قد فقد أهميته السياسية، لصالح أهمية أعلى لتفجير المرفأ، بما يعني نهاية زمن الاستثمار القانوني والسياسي لجريمة اغتيال الرئيس الحريري كآلية تطبيقية للقرار 1559، قد أدّت المطلوب منها في تحقيق الانسحاب السوري من لبنان وتعثرت في تشكيل آليّة مناسبة لفتح الطريق لنزع سلاح حزب الله. وهذا الزمن صار وراء الحسابات الدولية والإقليمية التي باتت تحكمها معادلات جديدة تتناسب خدمتها مع استثمار تفجير المرفأ، في وضع العلاقة مع المقاومة على جدول التفاوض لا الاستئصال، والتفاوض تنازلات متبادلة، فيه حكومة يعرضها الرئيس الفرنسي أمانويل ماكرون مميّزاً ممثل حزب الله بين ضيوفه، كما فيه مشاريع ترسيم حدود، وتجديد لليونيفيل من دون تعديل مهام، واستعمال دعوات الحياد ونزع السلاح والشيطنة التي تستهدف المقاومة، للضغط التفاوضيّ، مع رسم خطوط حمراء لأصحاب الدعوات، مثل ممنوع الاستقالات النيابية، ولا للانتخابات المبكرة، ولا حكومة حياديّة بل حكومة ترضي الجميع.
– بمعزل عن السياق القانوني لقرار المحكمة، الذي مهّد له تحقيق مبنيّ أصلاً على الفساد، ومؤسس على الفبركات والاتهام المسبق، بحيث صار الحكم الذي برأ أغلبية المتهمين وحفظ ماء الوجه بإدانة واحد منهم، فإن القرار سياسياً وقانونياً، قال إن لا دليل على تورّط قيادة سورية وحزب الله في جريمة الاغتيال. وقال بالتوازي إن سياق الاغتيال سياسياً هو خلاف الرئيس الحريري مع سورية وحزب الله، وهو بالمناسبة خلاف مزعوم أدليت بشهادتي التي تثبت عكسه أمام لجنة التحقيق الدولية، من خلال مضمون ما دار بيني وبين الرئيس رفيق الحريري قبل أيام من الاغتيال، وبالتالي قال الشيء وعكسه ليبقى مشروعاً تفاوضياً صالحاً، وقال الحكم في القانون إن أحد وجوه الاتهام السياسي لا يزال على الطاولة وإن وجوهاً أخرى قد تمّت إزالتها، فبرأ من جهة وأدان من جهة مقابلة، بما يعني أن قرار المحكمة هو عرض تفاوضي سواء أدرك القضاة ذلك أم لم يدركوا، عندما تمّ وضعهم أمام تحقيق مهترئ وطلب إليهم حفظ ماء وجهه بالحد الأدنى الممكن، فكل السياق القانونيّ القائم على معادلات الخطوط الهاتفيّة حيث برأ وحيث أدان، هو في الحقيقة دون مستوى الإقناع والجدّية.
– ما قالته المحكمة إن الرئيس الحريري تم اغتياله بتفجير انتحاري، لكنها لا تعلم ولا التحقيق وجه اتهاماً محدداً يتيح معرفة مَن هو الانتحاري، ولا مَن جنّده، وإن إعلان المسؤولية الذي رافق الجريمة كان للتضليل، لكنها لا تعرف مَن الذي ضلّل ولا مَن سجّل شريط إعلان، وإن التحقيق لم ينجح في توجيه اتهام مقنع على هذا الصعيد. وتقول المحكمة إن الاغتيال سياسي لكنها لا تملك أي أدلة على الأشخاص أو الجهات السياسية التي يمكن اتهامها، رغم تبنّيها فرضية من فرضيات تحليل سياسي حول سياق الجريمة، والتحليل السياسي مجرد فرضيات غير التحقيق والوقائع والأدلة، والمحكمة تعترف أن لا أدلة ولا وقائع. وتقول المحكمة إن الاغتيال تمّ بواسطة شاحنة الميتسوبيتشي، لكنها لا تملك أدلة، ولم يقدم لها التحقيق أدلة مقنعة حول مَن اشترى الشاحنة ومن اسخدمها للتفجير، وهذه هي عناصر الجريمة، أو ما يُعرف بالعناصر الجرميّة التي تقول لنا المحكمة بعد مليار دولار وخمس عشرة سنة إنها لا تعرف عنها شيئاً.
– في كل السياق الذي انتهى إليه التحقيق، وتمّت على أساسه المحاكمة، تقول المحكمة إن كل ما لديها هي بيانات وتحليلات الاتصالات الهاتفية، وهنا من المهم الانتباه إلى أن المحكمة تعترف بأن ما قدّمه التحقيق ليس أدلة على قيام أشخاص معروفين باستعمال الخطوط التي تم استعمالها لغرض التفجير، بل إن شبكة التفجير المسمّاة بالخطوط الستّة لا تزال مجهولة الأصحاب، لكنها كانت ظرفياً لصيقة مكانياً بأرقام خطوط أخرى، هي بدورها كانت لصيقة ظرفياً ومكانياً بخطوط أخرى يسعى التحقيق لإثبات أنها كانت لصيقة ظرفياً ومكانياً بخطوط أخرى حاول التحقيق إثبات أنها خطوط شخصيّة لمن وجّه إليهم الاتهام، وبالنتيجة تقول المحكمة إنها لم تقتنع بإثباتات التحقيق في أغلب حالات الاتهام، واستثنت أحد المتهمين من البراءة من دون أن تقدّم ما يقنع بالفوارق بين حالته وحالة المتهمين الآخرين، وليس من ثابت هنا إلا الخطوط الستة التي عرفت بخطوط الضنيّة التي اشار إليها التحقيق اللبناني بعد أيام من الاغتيال، وهو التحقيق المتهم بالضعف والعجز وعدم الأهليّة.
– مَن يستطيع اليوم القول إن ليس لديه الانطباع بعد الحكم بأن المحكمة مسيَّسة، وإنها تترجم مشروعاً تغيّرت أهدافه بعدما فشلت نسخته الأولى في التفجير الأول، بينما يُراد لنسخته الثانية أن تستثمر التفجير الثاني، فهل تكون العبرة التي يستخلصها اللبنانيون هي من جهة تحصين التحقيق اللبناني والضغط ليكون صحيحاً ومحميّاً وموثوقاً، ومجمعاً حوله ليكشف الحقيقة الحقيقيّة، ومن جهة موازية تحصين لبنان لكي لا يبقى مشرَّع النوافذ على التلاعب بمصيره في سوق الألاعيب المخابراتية والسياسية، وقد تكلف لبنان غالياً مالياً وسياسياً ووطنياً ودفع من أرواح أبنائه من قيادات ومواطنين ما يكفي كثمن للاتهامات السياسية التي لم تفعل سوى تشجيع القاتل على المزيد من القتل.