إدراج النظرية الاقتصادية في المناهج الثانوية
} د. يوسف طباجة*
عصفت بعلم الاقتصاد أزمات عنيفة ذلك منذ التأسيس لهذا العلم (الكلاسيكي) على يد آدم سميث وأقرانه، إلى النيو – كلاسيكية (المنفعة والربح). ثم كانت النظرية الماركسية – التي قادت الاتحاد السوفياتي حتى سقوطه المدوّي (والمنظومة الاشتراكية ما عدا الصين) في أوائل تسعينات القرن الماضي، بعد أن تشعّبت إلى ماركسيات إذا جاز لنا التعبير.
وعلى أثر انتهاء الحرب الكونية الأولى؛ بدأت إرهاصات انقسام العالم إلى جبهتين بعنوانين اقتصاديين: «الرأسمالية» تقودها الولايات المتحدة الأميركية، و»الاشتراكية» بزعامة الاتحاد السوفياتي، أو ما عرف بالحرب الباردة… ثم جاءت أزمة الكساد الكبير عام 1929 التي هيأت للحرب العالمية الثانية من تحت رماد وتداعيات الحرب الأولى. فطرح «كينز» أطروحته (النظرية العامة التي تنظر إلى المجتمع بأسره حيث تناولت الكليات Economy Macro لا الجزئيات) كردّ فعل على سياسة «النيو كلاسيكية» المتجلية بالأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929. ثم أمست الكنزية من التراث الفكري الاقتصادي، بعد محاولات لإنعاشها (الكنزية الجديدة التي تدعو لتدخل الدولة – وكأنها متأثرة بالنموذج السوفياتي) دون جدوى، فكان طرح «مارغريت تاتشر» رئيسة حكومة بريطانيا (المرأة الحديدية بالشراكة مع الرئيس الأميركي ريغان) النيوليبرالية (المتوحشة) أو ما عُرف بـ «التاتشيرية» اعتماداً على نظرية المفكر الأميركي ميلتون فريدمان، التي خفتت حتى اختفت أواخر التسعينات من القرن الماضي، تزامناً مع انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية التي تدين بالفكر الماركسي، حيث تربعت الولايات المتحدة الأميركية منفردة على عرش العالم، وبدأ التنظير للنظام العالمي الجديد من فوكوياما و»نهاية التاريخ»، إلى هنتنغتون و»صراع الحضارات»، وقبلهما ألفن توفلر… على أنّ الرأسمالية التي تجدّد شبابها هي المنتصرة، فكانت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 والتي لا نزال نعيش تداعياتها إلى اليوم بمشهد سوداوي تتخبّط فيه أميركا على وجه الخصوص (داخلياً وخارجياً). بينما غدا الاقتصاد الصيني يتربّع على عرش العالم، والاقتصاد الروسي (وريث الاتحاد السوفياتي) يشتدّ عضده مع اقتصاديات ناشئة في العالم كدول «بريكس» وغيرها.
ولا شكّ في أنّ «علم الاقتصاد» يمرّ بأزمة عميقة في اللحظة الراهنة باعتباره علماً اجتماعياً. ولقد سبق أن نبّه عالم الاقتصاد الكبير أوسكار لانج (1965)Oscar Lange في مؤلفه المهمّ «الاقتصاد السياسي» إلى أنّ علم الاقتصاد إذا طغت عليه الأساليب الكمية، التي لا تخدم رسم السياسة الاقتصادية والفهم الاجتماعي للواقع الاقتصادي، فسوف يتحوّل إلى فرع من فروع علم بحوث العمليات، وتتمّ تصفيته كعلم اجتماعي…
مع التطورات التي حصلت في العالم… أصبح «اقتصاد المعرفة» (knowledge economy)، واقعاً نعيشه ونحن في عصر النانو تكنولوجي Nanotechnology. حيث أنّ المعرفة (القوة) تعني «إدراك الشيء على حقيقته»، تكون معنية بالعمليات الذهنية والمعالجات الفكرية، ما يحتم على الباحث فهم العوامل المحيطة به أو بالمجتمع الذي يدرس، فنجده يجدّ في تفسير هذا الواقع المحيط عن طريق استخدام الأدوات المعرفية والتكنولوجية…
وعلى العكس من الاقتصاد المبني على الإنتاج – بمعنى: «إنتاج الشيء توليده أو صنعه»، حيث تلعب المعرفة دوراً أقلّ، وحيث يكون النمو مدفوعاً بعوامل الإنتاج التقليدية، فإنّ الموارد البشرية المؤهّلة وذات المهارات العالية، أو رأس المال البشري، هي أكثر الأصول قيمة في الاقتصاد الجديد، المبني على المعرفة.
مهّد الربع الأخير من القرن العشرين بثورة التكنولوجيا ليكون القرن الحادي والعشرين شاهداً على تغيّرات جذرية هامة تطرح العديد من التحديات والفرص، فضلاً عن تعاظم أهمية المعرفة (والتي تعتبر التكنولوجيا أحد أهمّ عناصرها وروافدها) في الاقتصاد الجديد حتى أصبحت سمة اقتصاد القرن الحادي والعشرين هي الاقتصاد المبني على المعرفة Knowledge-Based Economic ، وهذا يعني أنّ المجتعات البشرية ستكون قائمة على المعرفة وهيمنتها، ولمثل هذا فليتنافس المتنافسون، حيث يعتبر التعلم – ذلك الكنز المكنون – أهمّ مصادر تعزيز التنافس الدولي، خاصة في مجتمع التكنولوجيا والمعلومات، باعتبار أنّ التعليم هو مفتاح المرور لدخول عصر المعرفة وتطوير المجتعات من خلال تنمية حقيقية لرأس المال البشري الذي هو محور العملية التعليمية، بما يعني أنّ مجتمع اقتصاد المعرفة مرتبط بمفهوم مجتمع التعليم/ التعلم، الذي يتيح كلّ شيء فيه فرصاً للفرد، ليتعلم كي يعرف ويتعلم كي يعمل ويتعلم كي يعيش مع الآخرين ويتعلم كي يحقق ذاته.
واقتصاد قائم على المعرفة يعني اقتصاداً قائماً على التعليم، على أساس أنّ التربية والتنمية صنوان في مجتمع المعرفة، والإنسان المنفرد بالتربية هو المحرك الأساس للعملية التعليمية، ذلك من المسلمات المعرفية أنّ التعلم – المستمر من الطفولة إلى الشيخوخة أو من المهد إلى اللحد – هو أهم عوامل التغيير في المجتمعات البشرية، والوسيلة الفضلى لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية التي منها تنطلق التنمية بكلّ أشكالها، خصوصاً الاقتصادية منها، نحو التقدم والتطوّر والتحديث والرقي الاجتماعي.
وأثبتت الوقائع في عالمنا اليوم في خضمّ الأزمة الاقتصادية العالمية منذ العام 2008 والمترافقة مع تعاظم ثورة التكنولوجيا أنّ المعرفة ووعي الواقع المعاش هي قوة الإنسان الحقيقية.
إنّ التحوّل إلى مجتمع لا بل إلى عالم المعرفة الذي جرى ولا يزال، يحتاج إلى عمل أفراد مَهَرة ذهنياً، بمعنى معالجة المعلومات واستخدامها، ما يتطلب الحصول على مستويات عالية من التعليم والمهارات الفكرية والخيال العلمي، وتعظيمها بالمواكبة والتعلم المستمر، كي يتسنّى لهذا الفرد المشاركة في العملية الانتاجية؛ فكيف بالدول؟ إذ تقدّر الأبحاث العلمية بأنّ ثلثي الزيادة في الإنتاج تحدثه المصادر البشرية، في حين تشكل المصادر المالية الثلث الآخر من عناصر الدخل، وهاكم الصين وعلى الطريق الهند ودول أخرى رسمت لنفسها خططاً للتقدّم والتطوّر. والذي يقوم بشكل أساسي على إعادة إنتاج وبناء سياسات وأنظمة تعليمية تحدّد مستقبل الأمة الاقتصادي والاجتماعي.
لهذا أصبح من الواجب تحديث مناهجنا التربوية التي تأخذنا إلى اقتصاد يقوم على المعرفة، لعلنا نواكب العصر ونتجاوز أزماتنا الاقتصادية والمسحوب عليها كلّ المشاكل التي تعترض حركة نهوضنا.
*أستاذ في الجامعة اللبنانية