منطق العدالة الدوليّة وصراع المصالح…
زهير فياض _
للعدالة مفهوم واسع وعميق وشامل وهو منهح أخلاقي يهدف الى الحدّ من ظاهرة الإفلات من العقاب والحدّ من الجريمة وتداعياتها، والسعي للحفاظ على الاستقرار والسلام الأهلي داخل المجتمع وبين الدول وحول العالم.
العدالة – بهذا المعنى – ترتكز على مجموعة من القواعد القيمية والأخلاقية والمناقبية التي ناضلت البشرية قروناً لتحديد معالمها وحيثياتها ومضامينها، وأيضاً لتحديد معايير العدالة فيها، وأصول المحاكمات ونوعيّة العقاب تبعاً لنوعيّة الجرم والحيثيات المتعلقة به، وتناولت التشريعات الحديثة تحليلاً موضوعيّاً للجريمة، أسبابها، أهدافها، دوافعها، وتمّ تحديد المواد القانونية التي تجري على أساسها المحاكمات، فإذ بنا أمام موسوعات قانونية تطرّقت لأدقّ التفاصيل المتعلقة بكلّ جوانب الجريمة وتصنيفاتها وأنواعها، وكانت هناك مدارس ومناهج قانونية متكاملة سواء الانجلو – سكسونية أو اللاتينية.
فالقانون المشترك common law ويسمّى أيضاً القانون الانجلو سكسوني، أو القانون العام، هو المدرسة القانونية التي تستمدّ جذورها من التراث القانوني الانجليزي، ومجموعة القوانين النابعة من هذه المدرسة، ومن أبرز سماتها الاعتماد على السوابق القضائية كمصدر ملزم للتشريع، وتقابل هذه المدرسة مدرسة القانون المدني التي تستمدّ جذورها من التراث القانوني الأوروبي، مثل قانون نابليون وبالأخص القانون الروماني.
لكلّ مدرسة مناهجها وأساليبها في البحث القانوني وطرائقها في تطبيق القانون واستنباط العقوبات.
لماذا هذه المقدّمة حول التشريعات والمجموعات القانونية؟
لأنّ المناهج تختلف من نظام قضائي الى آخر، وإنْ كان الهدف هو إحقاق الحق وفرض القانون وتحديد العقوبة في كلّ جريمة وتحقيق العدالة باعتبارها الضمانة لحماية المجتمع وسلامته.
ما يهمّنا في هذا البحث، هو محاولة استكشاف القواعد والأسس التي تقوم عليها العدالة الدولية (بين هلالين)، وهل المحاكم تتمتع بشروط الحياد والموضوعية وخارج إطار التأثير السياسي وصراع المصالح الدوليّة؟
هذا سؤال محوري وأساسي يتناول اليوم عمل كلّ هذه الهيئات القانونية الدولية من خلال مسارات عملها في العديد من البلدان حول العالم.
لكن، وقبل الغوص في تجارب المحاكم الدولية حول العالم، لا بدّ من الإشارة الى أنواع المحاكم وكيفية إنشائها، ومدى اختصاصها، إضافة الى العديد من المسائل القانونية والتقنية المرتبطة بعملها.
توجد في العالم اليوم مجموعة متنوّعة من المحاكم والهيئات القضائية الدولية التي تتفاوت درجات ارتباطها بالأمم المتحدة.
وتتراوح هذه المحاكم والهيئات القضائيّة – حسب ما هو معلوم – من محكمة العدل الدولية، وهي الهيئة الرئيسية لمنظمة الأمم المتحدة، الى المحاكم الجنائية المختصة بقضايا محدّدة والتي ينشئها مجلس الأمن، الى المحكمة الجنائية الدولية والمحكمة الدولية لقانون البحار، اللتين أنشئتا بموجب اتفاقيتين تمّت صياغتهما في الأمم المتحدة وإنْ أصبحتا الآن كيانين مستقلين يرتبطان بالمنظمة من خلال اتفاقين خاصين للتعاون، وهناك محاكم دولية أخرى قد تكون مستقلة تماماً عن الأمم المتحدة.
بماذا تتميّز تجارب المحاكم الدولية حول العالم؟
طبعاً، موضوعياً شكلت فكرة العدالة الدولية قفزة نوعية وتطوّراً مهماً في مجال القانون الدولي.
إذ إنه من الناحية النظرية لا يمكن لأيّ شخص مهما بلغت مكانته تبرير ارتكابه لجرائم خطيرة بسبب وظيفته العامة أو التخفي وراء صفته الرسمية.
وقد تحققت إنجازات قضائية كثيرة في العديد من القضايا وتمّت ملاحقة العديد من الأشخاص المتّهمين بجرائم ضدّ الإنسانية، ومنهم سياسيون كبار في دولهم مثل الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش، والرئيس الليبيري السابق شارل تايلور المتهم بمسؤوليته في اندلاع حرب أهلية في بلد مجاور هو سيراليون.
إذاً، مبدأ قيام محاكم دولية قام على أساس التكامل بين القانون الدولي والقوانين المحلية، حيث يكمل القانون الدولي النطاق القانوني والحقوقي للقوانين المحليّة بنتيجة إما عدم الاختصاص أو عدم القدرة أو النقص في التشريعات.
إذاً، الأصل كما في كلّ المسائل المتعلقة بجوانب مجتمعية مختلفة، أن تؤدّي العدالة الدولية دورها في النطاقات التي عجزت فيها العدالة المحلية عن إتمام واجباتها في تحقيق العدالة والاقتصاص من المجرمين، والقضاء على فكرة الإفلات من العقاب.
السؤال الأساسي المشترك الذي يتبادر الى الأذهان: «هل تحققت العدالة الدولية في كلّ الأمكنة وبالنسب والمعايير ذاتهما؟» الجواب: «نعم… لا».
من خلال الرصد، للكثير من الحالات القضائية الدولية نرى أنّ سير العدالة توصل الى تحقيق العدالة (بين هلالين)، حيث توفرت ظروف التعاون السياسي بين الأطراف الدولية المشاركة في إنشاء هذه المحاكم، وتعثرت هذه المحاكمات في نطاقات القضايا المتشعّبة في السياسة والأمن والمصالح وصراع القوى الدولية حول العالم.
هذا ما حصل في أفغانستان على سبيل المثال، ففي عامي 2016 و 2018 مارست الإدارة الأميركية تهديدات مباشرة وضغوطاً على المحكمة الدولية المتعلقة بالنظر في جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الأميركية في أفغانستان، حيث وصف مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون المحكمة بأنها غير شرعية، وقال:«سنقوم بفعل كلّ شيء لحماية مواطنينا»، حتى أنه هدّد بمنع قضاة المحكمة ومدّعي العموم فيها من دخول الولايات المتحدة الأميركية مع فرض عقوبات على الحسابات المالية لأولئك القضاة، وللمفارقة هدّد بولتون القضاة بمحاكمتهم وملاحقتهم وفق النظام الجنائي الأميركي، وسعى لدى الدول لمنع تسليم مواطنين أميركيين مطلوبين الى هذه المحكمة.
في السودان استعملت قرارات المحكمة الدولية شمّاعة لتحقيق أغراض سياسية تتعلق بمصالح دولية أفضت الى تقسيم السودان بعد الضغط على الرئيس السوداني آنذاك عمر البشير من بوابة المحكمة الدولية والاتهامات المُساقة اليه حول تورّطه بجرائم حرب ضدّ الإنسانية.
وخلال العقد الأول من الألفية الثالثة، أحال «المجتمع الدولي» الى القضاء الجنائي الدولي قادة دول كثيرة بتهم ارتكاب جرائم حرب.
لكن، وهنا السؤال المركزي، لماذا لم يحاكَم كلّ هؤلاء، بل كانت المحاكمات انتقائية.
لماذا لم يحاكَم قادة مثل أرييل شارون رغم وضوح الجرائم التي ارتكبوها؟ حتى أنّ محكمة العدل الدولية نقضت القانون البلجيكي الذي كان ينظر في جرائم شارون وأبطلت محاكمته، من دون أن يتولى القضاء الدولي الولاية القضائية والنظر في جرائم الحرب المرتكبة من قبل شارون.
هل هذه هي الشفافية الموعودة في مقاربة قضايا بهذا الحجم؟
إذاً حتى توجيه التهم الى مرتكبي الجرائم يخضع للانتقائية ولحسابات وتوازنات ومصالح حول العالم، وهذا يضرب مفهوم العدالة ومبدأ عدم الإفلات من العقاب، ومجلس الأمن الذي يأخذ قرارات إنشاء المحاكم الدولية هو هيئة سياسية وليس هيئة حقوقيّة، والاعتبارات السياسيّة تتقدّم على ما عداها، وهذا واضح وجلي للعيان.
هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، فعمل لجان التحقيق الدولية التي تتولى جمع المعطيات والأدلة المتعلقة بالجرائم التي يتمّ التحقيق فيها، أيضاً تخضع في أصل تشكيلها وفي مساراتها للضغوط والتدخّلات السياسيّة، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً من يوغوسلافيا الى رواندا الى السودان الى أفغانستان، الى كينيا، الى ليبيا، إلى لبنان الى غيرها من الدول حول العالم.
يُضاف إلى ذلك ضعف الأجهزة الرقابيّة، والتورّط في قضايا فساد وصرف نفوذ في أعلى المستويات الدولية.
والمثل اللبناني في المحكمة الخاصة بلبنان أبلغ مثال على ذلك، حيث إنّ مسارات التحقيق في قضية الحريري من ديتليف ميليس شابتها الكثير من الشوائب الواضحة والنافرة، من قضية الشهود الزور، الى التخبّط في توجيهها حسب متطلبات المرحلة السياسية، الى الركون لأدلة ظرفية غير ثابتة، الى الكثير من المسائل التي يستطيع أكثر فهمها خبراء القانون.
الخلاصة، العالم اليوم أبعد ما يكون عن تجسيد مفهوم حقيقي إنساني للعدالة الحقة، ويبدو أنّ النضال من أجل الحق والعدل يستمرّ، لأنّ الحياة الإنسانية بحدّ ذاتها تمثل هذا الصراع المستدام بين الحقّ والباطل.
*باحث وكاتب سياسي