التكليف والتأليف…
} علي بدر الدين
كلّ مصائب الدنيا ومآسيها ونكباتها حطت رحالها في لبنان، وهي كثيرة، وتعدادها سهل وفي متناول اليد، وعلى مرمى العين وأمام القاصي والداني وأكثر، لأنها تقيم في البيوت والشوارع والعقول والدموع والثكالى والأيتام والأرامل، وفي كلّ مناحي حياة اللبنانيين. إنها مكشوفة ومعروفة ويُشار إليها بالبنان، وقد طاولت البشر والحجر والشجر، وأنتجت تداعيات اقتصادية ومالية واجتماعية ومعيشية وقيمية وفقر وجوع، وغيّرت أو بدّلت كلّ معالم البلد التي تحوّلت إلى أثر بعد عين، وأدخلته في نفق مظلم ومجهول، لا أحد ولا جهة ولا دول قادرة على إخراجه منه أو توقيف انزلاقه وتدحرجه، أو هي لا تريد لأنّ ذلك يخدم مصالحها ورقم تستعمله لرفع سقوف تفاوضها والأثمان التي تطلبها.
الملاحظ أنّ كلّ هذه المصائب والانتكاسات التي أصابت من لبنان تدميراً وخراباً ومن اللبنانيين مقتلاً وتعوّقاً، استثنت أقله الطبقة السياسية المتسلطة منذ اتفاق الطائف، أيّ منذ ٣٠ سنة، حيث انها لم تتشظ أو تصب بمكروه ولا عائلاتها ولا المحيطين بها، ولم تدمّر قصورها أو تسرق، ولم تقطع عنها الكهرباء ولا الماء ولا الاتصالات ولا الغذاء بنوعيته العالية، ولم يهاجر أولادها إلا للتحصيل العلمي في أهمّ جامعات في أميركا وبريطانيا وفرنسا، أو للاستجام والسياحة، ولا تقبل العقيلات والشقيقات والكريمات التسوق إلا من الأسواق الأوروبية وملاحقة آخر موضة من الأزياء والاحذية والجزادين.
انقلب لبنان رأساً على عقب، وحدها الطبقة السياسية ظلت ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل ولا تتحوّل ولا تسقط. فعلا انها معجزة العصر وقد دخلت كتاب غينيس للأرقام القياسية لشهرتها التي طارت في العالم حيث تسوق لنظام سياسي طائفي مذهبي فاسد جعل من البلد الذي تحكمه منذ عقود من أكثر الدول فساداً، ومديونية وفقراً. آخر الإحصائيات الدولية تشير إلى أنّ ٥٥ بالمئة من اللبنانيين باتوا تحت خط الفقر، والحبل على الجرار وصولاً إلى تفاقمه وبلوغ المجاعة.
الغريب، العجيب، أنه رغم المشهد الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي والمالي الذي ينذر بكارثة فعلية قادمة، وكلّ الحروب والصراعات والضحايا والجرحى والدمار والخراب والتشريد والتهجير والدماء التي لوّنت الشوارع والبيوت وسواد الحزن المسكون في قلوب الناس، بفعل كارثية وفاجعية انفجار مرفأ بيروت، وكارثة جائحة كورونا المتفاقمة والخطيرة جداً التي عمّقت الجروح والمعاناة، وسرقت صحة وسلامة ورغيف الناس. كلّ هذه الأهوال التي تراكمت بفعل الفساد والإهمال والنهب المنظم، والتي وضعت لبنان على فوهة بركان يغلي وقد ينفجر بأية لحظة ويطيح به وتحويله إلى مجرد بلد خارج الزمان والمكان ولا يستحق البقاء أو أن يكون مسجلاً على خارطة العالم. فإنّ الطبقة السياسية لم تتأثر بكلّ ما حدث وما يتربص بالوطن والمواطن، وقد انعدمت عندها المسؤولية والرحمة والضمير، ولا تعنيها المآسي والأحزان ومشاهد الموت والدمار والدماء والدموع، ولا الشعب الذي يفترش الارض والشوارع وينتظر المساعدات الغذائية والادوية والألبسة من الدول والجمعيات التي تشحذ بإسم هذا الشعب المبتلي بهكذا حكام نهبوه وأفقروه وجوّعوه ورموه عظماً بعد أن تنعّموا وتتلذذوا بلحمه.
الطبقة السياسية التي لم تتخلّ عن ممارسة هوايتها في التلاعب بمصير الشعب والبلد تفتعل الخلافات وتتنازع المواقف وتتبادل الأدوار حول ملف واحد هو تشكيل الحكومة ومن هو الشخص الذي يشكلها. هل هو سعد الحريري أو من يمثله؟ وهل يوافق عليه العهد أو رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل؟ وما الذي حصل حتى يعترض رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط على تسمية الحريري؟ وماذا تريد القوات اللبنانية المرتبكة والضائعة من الحريري حتى توافق عليه؟ ولتاريخه فإنّ الثنائي الشيعي وبعض الحلفاء يرغبون بالحريري رئيساً للحكومة.
كلّ هذا الضجيج والعناء والسجال حول اسم رئيس الحكومة، ع أنّ كلّ ما يحصل لا يعدو كونه مجرد مناورات سخيفة لا تقدّم ولا تؤخر، ولا قيمة لها. فكيف إذا تمّ التفاهم على اسم المكلف وهذا ما سوف يحصل وبقرار خارجي رغماً عن هذه الطبقة التي لا دور لها سوى التلهّي بلعبة القط والفأر. فماذا يحصل عندما يبدأ البحث في شكل الحكومة وعنوانها؟ وكيف ستوزع الحقائب المصنفة، وقد بدأت الإشارات والتمريرات عن ضرورة التغيير بحقائب الخارجية والمال والطاقة؟
إنّ قرار تسمية المكلف بتشكيل الحكومة وولادة الحكومة ليس بيد الطبقة السياسية. ودورها يقتصر على اختلاق المشكلات ورمي الأسماء لحرق بعضها وتضييع اللبنانيين بسيناريوات ومناورات وألاعيب بارعة فيها، ثم تقبض الثمن الذي تريده وهو البقاء في السلطة حتى يأخذ الله أمانته ولن يستثني أحداً لأن لا أحد فوق رأسه خيمة.
الحكومة المتعثرة اليوم ستفتح طريق التأليف أمامها غداً. وكلّ الحكومات التي تشكلت أو أكثرها مرت بهذه التجاذبات والمسرحيات والمناورات وعضّ الأصابع الناعمة.