لا مخرج من حال الاستعصاء إلا بمؤتمر تأسيسي…
د. عصام نعمان*
أزمة لبنان المزمنة باتت في حال استعصاء. فهي تعيد إنتاج نفسها على مرّ الزمن بأشكال وألوان مختلفة. ما ان يفرغ الشركاء في المنظومة الحاكمة من مواجهة تحدٍّ حتى ينبري لهم آخر. غير انّ أصعب التحديات ذلك الذي يصنعه أحد الشركاء لإضعاف زملائه. هو الأصعب لأنّ أهل الدار أدرى بخفاياها.
أهل الدار هم الشركاء الأقوى في المنظومة الحاكمة. ما ان هنأوا أنفسهم بإخفاق معارضيهم من أصدقاء الغرب في استغلال الانفجار الهيروشيماوي في مرفأ بيروت لتحميلهم وحدهم مسؤولية الكارثة وصولاً الى إجلائهم عن سدة السلطة حتى وجدوا أنفسهم على خلاف مع شركائهم بشأن ما يقتضي عمله بعد الكارثة.
الخلاف بين الشركاء ليس على مسألة بقائهم في السلطة بل على كيفية تسويق ذلك بين اللبنانيين الذين يضعون جميع أهل السلطة في سلّة واحدة باستثناء حزب الله بما هو حزب المقاومة. حتى حزب الله لا يسلم من النقد لسكوته على تجاوزات بعض حلفائه.
اللبنانيون الساخطون، وهم الغالبية، اندفعوا إلى الشوارع والساحات منادين بضرورة إقصاء أهل النظام الفاسد. ظاهر الحال انّ موازين القوى لا تسمح، بعدُ، بذلك. من هنا ينهض سؤال: ما العمل الآن؟
إذا كان إسقاط النظام الطوائفي الفاسد وأهله مطلوب ومشروع فإنّ تحقيقه متعذر في الحاضر والمستقبل المنظور. لذا فإنّ المسار الفاعل والأمن يتمثّل بتأجيج الانتفاضة الشعبية ضدّ أهل النظام الفاسدين لإكراههم على التسليم بأنّ نظامهم تآكل وانهار وأنهم عاجزون عن تعويمه وإصلاحه، وأنه يجدر بهم عدم المكابرة والإقرار تالياً بالواقع والقبول بتقصير زمن المحنة.
أما أهل الإنتفاضة فإنهم مطالَبون بالتعقّل إذ لا جدوى من طرح شعاراتٍ غير واقعية وغير قادرين على تحقيقها. لذا يقتضي ان يُقرنوا حملتهم ضدّ النظام الطوائفي الفاسد بطرح طريق لتغييره سلماً وتدريجاً لأنّ استخدام العنف بدعوى تسريع الإصلاح في مجتمع تعدّدي، كحال لبنان، يؤدي الى إندلاع حرب أهلية. أليس هذا ما حدث سنة 1975 وتحوّل الى حرب أهلية استمرّت حتى سنة 1990؟
يطرح بعض أهل القرار المستنيرين فكرة المؤتمر التأسيسي كمخرج من حال الاستعصاء وطريق لتحقيق التغيير والإصلاح سلمياً. هذه الفكرة سيف ذو حدّين. فهي جيدة من حيث اعتماد الحوار طريقاً للتوافق الوطني والإصلاح الديمقراطي، لكنها ملغومة من حيث هي وسيلة بأيدي أهل النظام الطوائفي الفاسد للتحكّم بتسمية أعضاءٍ للمؤتمر التأسيسي من بطانتهم وحواشيهم بقصد أن تأتي توصياته خادمةً لمصالحهم. أليس هذا ما انتهت اليه تجارب طاولات الحوار في القصور والسرايات؟
نعم، المؤتمر التأسيسي هو المخرج الأمثل من حال الإستعصاء التي تراوح فيها أزمة لبنان المزمنة. غير انّ نجاحه مشروط بكيفية تأليفه. وعلى هذا الصعيد، فإنّ الديمقراطية هي بالتأكيد البوابة والطريق. كيف؟
يتحدث بعض أهل القرار في هذه الآونة عن ضرورة تأليف حكومة وطنية جامعة من سياسيين واختصاصيين مستقلين تكون بمثابة قاطرة للإنقاذ وطليعة كاشفة لطريق التغيير والإصلاح. حسناً، في مقدور مثل هذه الحكومة، في مرحلة انتقالية، القيام بالمبادرات والإجراءات الآتية:
(أ) مبادرة رئيس حكومة الإنقاذ بالتعاون مع مجموعة من أهل الاختصاص في صفوف القوى الوطنية والتقدمية وتنظيمات المجتمع المدني المستقلة والوازنة الى الاجتماع للتوافق، في مهلة شهر واحد، على مشروع قانون للانتخابات يراعي أحكام الدستور، لا سيما المادة 22 (مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف) والمادة 27 («عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء» ما يستوجب الدائرة الوطنية الواحدة) والمادة 95 («إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية») وخفض سن الإقتراع الى الثامنة عشرة تجاوباً مع الإصلاحات المنصوص عليها في وثيقة الوفاق الوطني (الطائف) وغيرها من المبادرات الإصلاحية.
(ب) إعلان مشروع قانون الانتخابات الديمقراطي المتوافَق عليه وإحالته على كلٍّ من مجلس الوزراء، ومجلس النواب، وقوى الانتفاضة الشعبية ليُصار إلى إقراره في مجلس النواب في مهلةٍ أقصاها شهر واحد، وإذا امتنع المجلس او أخفق في ذلك لأيّ سبب كان، يُصار الى تبنّيه من قِبَل قوى الانتفاضة الشعبية المعبّأة والمستعدة لإطلاق وتفعيل ضغوط شعبية عارمة على الحكومة بغية طرحه بمرسوم جمهوري على استفتاء شعبي عام لإقراره وبالتالي لاعتماده وتنفيذ أحكامه عملاً بنظرية الظروف الإستثنائية التي تستوجب تدبيراً استثنائياً في حال نشوء ظرف استثنائي، وهو حال البلاد قبل كارثة 4 آب وبعدها.
(جـ) إجراء انتخابات عامة وفق مشروع قانون الانتخابات آنف الذكر بغية توليد أول مجلس نواب يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته، فيشكّل بحدّ ذاته مؤتمراً تأسيسياً لإعادة بناء لبنان دولةً ووطناً.
هل كثير على القوى الوطنية والتقدمية، كما على المستنيرين من أهل القرار، اعتماد هذا النهج الديمقراطي خلال مرحلةٍ انتقالية للوصول الى المؤتمر التأسيسي كمخرج آمن من حال الاستعصاء التي تأسر البلاد والعباد؟
_ وزير سابق