الوطن

قرار الحريري: مناورة وتكتيك أم ورقة احترقت…؟

} علي بدر الدين

أخطأ اللبنانيون، بل أصيبوا بالصدمة وخيبة الأمل، عندما اعتقدوا انّ انفجار المرفأ الكارثي والفاجعي، قد يكون آخر المآسي والأحزان والآلام لهول وحجم ما خلفه من ضحايا وجرحى ومعوقين ودمار وخراب وتهجير. وانّ هذا الانفجار الرهيب والمروّع وغير المسبوق في لبنان رغم كلّ الحروب والمعارك التي شهدها ومرّت عليه سيدفع بالمنظومة السياسية الحاكمة الى مراجعة مواقفها وحساباتها وشعاراتها الخاطئة والمدمّرة التي اعتمدتها طوال حكمها وتسلطها على مدى ثلاثين سنة ايّ منذ إعلان اتفاق الطائف المشؤوم الذي أتاح لأمراء الطوائف والحرب نزع لباسهم الملطخ بالدم والظلم والخطف والنهب، لارتداء البدلات والقفازات وربطات العنق والتمترس خلف الطوائف والمذاهب والمناطق لتأمين التغطية والحماية والحصانة والخطوط الحمر وشرعنة وجودها وخياراتها وقراراتها، وكان لهم ما أرادوا، حيث أطلقوا العنان لأنفسهم لممارسة ما اعتادوا عليه في زمن الحروب والمعارك والصراعات المفتعلة، يعني حملوا معهم إلى ما تبقى من سلطة ومؤسسات «عدة الشغل» والعقلية الميليشياوية الممكيجة والمجمّلة لزوم المهنة الجديدة التي احتاجت منها الى أساليب وطرق حديثة لإثارة الغرائز والفتن ومعارك الأزقة والشوارع والمناطق والتخويف بذريعة انّ حقوق الطوائف والمذاهب في خطر، وانّ حصان طروادة لتحقيق الغلبة يكون بالانكفاء والتقوقع والمبايعة للحريص على مصالح الطائفة او المذهب.

هكذا نجحت ما يسمّى المرجعيات السياسية والطائفية والمذهبية والمصلحية والمناطقية والمالية بتكريس سيطرتها واستمرارها في السلطة ومؤسسات الدولة منذ ثلاثة عقود «والخير لقدام». ويبدو انّ هذه المنظومة او الطبقة السياسية أخذت على عاتقها ان لا تخرج من السلطة او تتخلى عن بعض مواقعها فيها حتى لا يبقى مواطن واحد في هذا البلد، سوى الأزلام والمحاسيب والأتباع والشركاء المستفيدين والمنتفعين، وحتى لا يبقى حجر على حجر. وإلا ماذا تعني السرقة المنظمة لأموال الخزينة العامة، ولأموال المودعين، وإيداعها في مصارف خارجية قدّرتها جريدة «واشنطن بوست» بما يقارب ٨٠٠ مليار دولار؟

وماذا يعني ضرب وتقويض القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية والسياحية وغيرها الكثير. وهي مؤشرات وأمثلة حية وواضحة، وزاد الطين بلة جائحة كورونا التي ستقضي على بعض ما تبقى قبل السقوط والاحتضار.

اعتقد اللبنانييون خطأ او عن سوء تقدير او عن يأس وإحباط أو طيبة زائدة، انّ ما بعد انفجار المرفأ لن يكون كما قبله. وانّ الطبقة السياسية ستشعر حتماً بالندم على ما اقترفته بحق الوطن والشعب، وأنها ستصاب بصدمة توازي صدمة الانفجار وسوف تنقلب على تاريخها الأسود وتحطم كلّ بنيان الفساد والمحاصصة والنهب، وربما ستعيد إلى الخزينة العامة جزءاً من المال المنهوب والمهرّب لأنه مال الدولة والشعب والمؤسسات، وانها ستعود الى ضميرها إذا ما تبقى منه في لحظة ألم وتجلّ.

ولكن كلّ هذا لم يحصل لأنّ شهوة السلطة وحب المال والفساد والتحاصص على كلّ ما يوجد على الأرض او في باطنها يسري كالدماء في شرايينها، وفقدانها يعني موتها. وهذا ما لا يمكن التنازل عنه حتى لو تحوّل البلد الى رماد.

والأنكى من ذلك أنّ انفجار المرفأ الزلزال لو حدث في دولة غير لبنان لأسقط النظام والحكام والدولة وأدخل البعض منهم الى السجون، وجرى تعليق المشانق. غير أنه في هذا البلد يُكافأ الحاكمون والمسؤولون ويُعاد لهم النفوذ والاعتبار وتشكيل الحكومات والإمساك أكثر بمفاتيح السلطة والقرار، وكأنّ شيئاً لم يحصل، والبلد بألف خير ومؤسساته تعمل بانتظام وفعالية واقتصاده لم ينهار، وكلّ شيء على ما يرام وكما يشتهي الشعب الذي وثق بالطبقة السياسية التي بفضلها يعيش البحبوحة والرفاهية. ولم يفقر او يجوع او يمرض ولن يتألم بعد اليوم لأنّ الموت السريع يتربص به.

هذه الطبقة نسيت أو تناست انّ فسادها المتراكم، وإهمالها المزمن والإخلاص الدائم لمصالحها وشهواتها وجشعها أدّى الى انفجار المرفأ وقتل الناس في بيوتهم والى إصابة الآلاف وإلى كلّ هذا التدمير. وهي لا «شغلة ولا عملة» لديها إلا البحث عمن سيُكلف بتشكيل الحكومة الجديدة، وهي «تربّح الشعب جميلة» أنها تجهد نفسها وتعطل مصالحها وقد تخسر من رصيدها السياسي والشعبي، لأنها انصرفت عن الاهتمام بجمهورها الوفي من أجل المصلحة العامة، يعني من الحب ما قتل.

انّ ما يحصل لجهة البحث عن اسم من سيُكلف بتشكيل الحكومة كمن يبحث عن إبرة في كومة من القش لأنّ من سيكون له شرف تسلم رئاسة الحكومة في ظلّ صراع المصالح والمحاور الإقليمية والدولية سيبقى ورقة مستورة الى ان تتقاطع المصالح وتتمّ التسويات وتعلن التفاهمات وتدفع الأثمان فيطلب من الفانوس السحري الكشف عنه من دون العودة الى مكونات الطبقة السياسية الداخلية التي عليها فقط الاستجابة السريعة وتوقيف همروجاتها وشيطنتها وادّعاءاتها الفارغة.

وكان اسم الرئيس سعد الحريري الأكثر تداولاً للتكليف خاصة انّ معلومات تسرّبت انّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الداعمين لتكليفه، وانه يحظى بدعم وتأييد الثنائي الشيعي وحلفائهما، وكان هذا على مستوى الداخل كافياً سياسياً ونيابياً ليحظى بالتسمية.

ويبدو انّ التسريبة الفرنسية انعكست سلباً عليه وأضرّته في مكان ما، ولم يكن أكثر المتشائمين ان يتوقع منه الانسحاب من السباق الى القصر الحكومي، وهو الذي كان أكثر المتضرّرين من وجوده خارج القصر، وكان سعيداً عندما استقالت حكومة «مواجهة التحديات» أو أقيلت لأنها أتاحت الفرصة أمامه ليدخل السراي على صهوة حصان أبيض. وقد يكون انسحابه في هذا التوقيت من الحلبة تكتيكاً ومرحلياً، ويراهن على انّ أحداً غيره من الطائفة السنية لن يجرؤ على القبول بالتكليف، وخاصة انّ تجربة رئيس حكومة تصريف الأعمال الدكتور حسان دياب لا تزال ماثلة أمام الجميع وما تعرّض له من ضغوط وإساءات واتهامات. وربما وصلت إلى الحريري رسالة إقليمية أو دولية تبلغه بانّ يتنحّى لأن لا حظ له ولا دعم، فتلقفها وبادر إلى إعلان عدم ترشحه لرئاسة الحكومة ولحفظ ماء الوجه.

من السابق لأوانه تبني ايّ موقف او توقع أو تحليل قبل اتضاح المشهد السياسي العام واتجاه بوصلة الحكومة، وانتظار ردود الفعل الداخلية والخارجية على قرار الحريري، لأن من شأن ذلك ان تتبلور الصورة ويعرف الرجل مكانته او ضرورته أو أنه بات واحداً من السياسيين اللبنانيين التقليديين الذين فقدوا التأثير في القرار السياسي الداخلي او مع الأصدقاء الخارجيين المفترضين الذين لا تهمّهم سوى مصالح دولهم وشعوبهم.

هل احترقت ورقة الحريري؟ وهل أصاب في قراره المفاجئ او تسرّع فأخطأ؟ أم أنها مجرد مناورة لإرباك الخصوم والحلفاء على السواء؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى