تحريف التاريخ وتقديم رأس يوحنا لسالومي مناقشة لمقالة سجعان قزي عن الحياد
ناصر قنديل
– عندما يكتب الأستاذ سجعان قزي مقالاً تنظيرياً لدعوة الحياد، وهو من الذين يُقال عن قربهم للبطريرك الراعي ودورهم في صياغة مشروعه للحياد، يفترض أن يكون المقال تشريحاً لمعادلات في التاريخ والجغرافيا والسياسة الدولية والإقليمية والمحلية تضيف لدعوة الحياد بعض الرصيد، لكن القارئ سيصدم بأن المقال محاولة تحريفية للتاريخ، باعتماد انتقائي أقرب للنشيد منه للتحليل الموضوعي، فالحديث عن تاريخ لبنان كتاريخ للحياد، يجافي حقيقة أن لا بلد في العالم تاريخه أحادي الوجهة بالحياد أو بالتحالفات، أو الحروب، ولبنان ليس شواذاً عن القاعدة، فلم يسبق منظرو الحياد السويسري والنمساوي الأستاذ قزي بالقول إن تاريخ سويسرا والنمسا تاريخ حياد، بل فعلوا العكس، وقالوا إن تاريخ أزمات البلدين ناجم عن عدم تبني خيار الحياد، الذي نضجت ظروفه الداخلية والخارجية في فترة من التاريخ تزامنت مع تلك الدعوات.
– أسهل المهام في قراءة التاريخ هي الانتقائية، لكنها أسوأها، فيمكن بجلب وقائع عن تاريخ أحلاف خارجية كان لبنان في قلبها، كتحالف الأمير فخر الدين مع الأوروبيين بوجه السلطنة العثمانية في مرحلة من حكمه، أو تنصيب الأمير بشير الثاني حاكماً لبلاد الشام بعد غزوة محمد علي باشا ودخوله سراي بيروت، أو السردية المعلومة لانضمام حكم الرئيس كميل شمعون إلى حلف بغداد وطلبه للأسطول الأميركي، أو العلاقة المميزة لحكم الرئيس فؤاد شهاب وتموضعه في حضن المحور الناصري، والاستخلاص من كل ذلك على طريقة الأستاذ قزي، أن تاريخ لبنان الذي كتبته صور بمقاومة الإسكندر وصيدا التي أحرقت نفسها، هو تاريخ حروب ومواجهات ومحاور، والمحرّف للتاريخ وحده يفعل ذلك، لأن تلك ليست إلا البعض وليست كل تاريخ لبنان، كما يمكن لآخرين الاستعانة ببعض التاريخ للقول إن تاريخ لبنان هو تاريخ انقسام وفتن وحروب أهلية، وسيجد الباحث عشرات ومئات المحطات التاريخية لإسناد استنتاجه، لكنه يقع في التحريف لأنه اقتطع البعض وسمّاه الكل. ويعلم أصحاب العلوم ومنهم أصحاب علم التاريخ أن الحديث عن الإطلاق يكذبه استثناء واحد أو شواذ واحد عن القاعدة، فهل فات الأستاذ قزي، كم من المعاكسات التي يسوقها التاريخ أمام ناظريه لفرضيته، التي تصير تحريفا للتاريخ يستسيغه لمجرد غائية مسبقة في قراءة التاريخ، تريد التلاعب بالعقول لادعاء اكتشاف بارود التاريخ، والصراخ بفرحة أرخميدس، لقد وجدتها.
– لم تجدها أستاذ قزي، فتاريخ لبنان هو تاريخ تنقل فيه بين حالات فيها الحروب الخارجية والداخلية، وفيها مقايضة السيادة بالحكم الذاتي، وفيها الخضوع للانتداب والاحتلال ومساومته، وفيها المقاومة وفيها الحياد والمحاور، ومن كل لون نصيب، كما هو تاريخ كل المجتمعات البشرية.
– أما الحياد اليوم، الأنشودة التي يعرف أصحابها أنها تشبه أنشودة نحن نحب الحياة، والتي يعرفون أن لا وظيفة لها إلا شيطنة خصم، لا تصير دعوة الحياد ذات جدوى إلا بموافقته كشريك في الوطن، إلا إذا كان الحياد بنسخته الجديدة يقوم على الانقسام الداخلي للأوطان، وعلى حد علمنا أن التوافق كان ولا يزال من شروط دعوات الحياد، فالأنشودة تريد توصيف الشريك المقابل في الوطن كمحبّ للموت، وهي تدرك فراغ الحديث عن حب الحياة من أي معنى سياسي، ومثلها تريد أنشودة الحياد شيطنة الخصم بصفته داعية حروب، بينما يدرك أصحاب الأنشودتين أن الحياة والحياد بمعناهما الحقيقي ما كانت لهما فرص لو بقي لبنان تحت الاحتلال الإسرائيلي، بعد تجربة سنوات من مساعٍ للرئيس الكتائبي، الذي حمل خلفيته ذاتها الأستاذ قزي، وشعاره ذاته لعهده، وهو الحياد، الذي يعترف الرئيس الجميل بأنه رهان خائب انتهى بالفشل، لأن الأميركي لا يرى المنطقة إلا بالعيون الإسرائيليّة، ويقول التاريخ إن المقاومة هي التي حررت لبنان من الاحتلال بعد فشل وصفة الحياد، كما يقول إن قوة المقاومة هي التي جعلت الغرب ومن خلفه بعض العرب وكيان الاحتلال، يرتضون للبنان الحياد كعنوان لدعوة الراهن بعدما فشلوا بوضع اليد عليه، ولكن ليس سعياً لسلامه، بل كمشروع حرب بديلة.
– الحياد يقوم كما لا يغيب عن الأستاذ قزي، على يقين طرفي الحدود سورية و«إسرائيل»، كما يسمّيهما الأستاذ قزي، بأن صراعهما أو سلامهما يحتاج حياد لبنان، ولبنان في الصراع المقصود هو المقاومة التي تؤرق أمن «إسرائيل» وتطمئن أمن سورية، ولا وظيفة لدعوة الحياد سوى طمأنة «إسرائيل» وإثارة قلق سورية، وبغض النظر عن المعنى السيئ لطلب ما يريح «إسرائيل» ويقلق سورية، يبقى المهم أن الحياد بالنتيجة، لن يلقى قبول «الجارين»، لأن أحدهما رابح والآخر خاسر، وفي الداخل لا يخفي دعاة الحياد وفقاً لمضمون كلام البطريرك صاحب الدعوة، أنه يستهف إضعاف فريق لبناني طائفي، وتصوير لبنان تاريخاً وبيئة لطوائف دون سواها، ومن المصادفات أن هذا الطرف المطلوب إضعافه قد عجزت كل دول العالم القريب والبعيد عن إضعافه، وكل ما تفعله الدعوة هو أنها تضع بعض لبنان في جبهة ومحور يستكملان الحرب ضد هذا الفريق أملاً بتعزيز مصادر قوته للفوز بحرب فشل في كسبها ضد هذا البعض الآخر من لبنان. وأين نبل الحياد هنا، وحقيقته؟
– في العائدات المفترضة للحياد كما يقول البطريرك صاحب الدعوة، ويردد الأستاذ قزي، ترغيب بالمال والازدهار، وهما حاجتان لبنانيتان، لكن السؤال هو ببساطة، طالما ليس خافياً أن الحياد يستهدف استرضاء جبهة عالمية إقليمية، تملك المال المنشود وفقاً لأصحاب الدعوة، وتستهدف دفع الثمن من مصادر قوة فريق لبناني تناصبه العداء، فهل يملك أصحاب الدعوة وصفة لمعالجة النتائج العكسية لمشروعهم، القائم على ضمّ لبنان إلى محور غربي خليجي يجاهر بأن القضية الفلسطينية لم تعد ضمن اولوياته، ويتبنى التطبيع مع «إسرائيل» من دون حل هذه القضية، ويجاهر بالدعوة لتوطين اللاجئين الفلسطينيين، إلا إذا كانوا قد قبلوا ضمناً مقايضة التوطين بالأموال، ومثله توطين النازحين السوريين الذين لا يقبل الغرب بعودتهم، وبالتوازي سيتكفل العداء المضمر بالدعوة مع سورية، بقطع الطريق على فرص التعاون معها لإعادتهم؟
– السؤال الحقيقي هو لماذا لم يقدم أصحاب الدعوة بدلاً منها، بفتح حوار مع المقاومة التي يسعون لشيطنتها، ويقدمون رأسها على طبق من ذهب للغرب والخليج طلباً للمال كما قدم هيرودس رأس يوحنا، طالما يؤمنون بأن الحياد شرطه التوافق الداخلي، فيكون الحوار بهدف توظيف مصادر قوة المقاومة لضمان عدم التوطين، بوضع السلاح في مقابل حق العودة، ووضع انسحاب المقاومة من سورية مقابل عودة النازحين وإعفاء لبنان من العقوبات، والتزام المقاومة الحياد في صراعات الخليج واليمن والعراق، مقابل إزالة الحظر عن تدفق أموال الخليج والسياح إلى لبنان؟
– قد لا ترضى المقاومة بهذه العروض، لكننا كنا سنصدّق بأن خلفية الدعاة وطنية لبنانية حقيقية، وكان هذا ليكون الحياد الحقيقي المحقق للمصالح الوطنية، أو المؤكد لوطنية أصحابه، كمشروع مطروح على الطاولة لتعزيز قوة لبنان وتماسكه الداخلي، تماسك قالت التجارب إنه يبقى أغلى من أي تعصّب لفكرة يتبناها فريق وتتسبب بتعميق الانقسام، مهما كانت الفكرة صحيحة، فكيف إن كانت مبنيّة على تحريف للتاريخ وضعف نظر في الجغرافيا، وتنكّر لألفباء السياسة.