ما ينفع وما لا ينفع ما يجوز وما لا يجوز…
المهندس خالد الرواس
يمرّ لبنان اليوم بحالة من الفوضى السياسية، والانهيار الاقتصادي، والتعثر المالي، والانفلات الأمني، والضائقة الاجتماعية، وتناقص في القدرة الشرائية، ناهيك عن تداعيات وباء كورونا، على النحو الذي لم يعد ينفع معه المعالجات العادية، لعودة الأمن والأمان إليه على الصعد كافة، فأسباب المرض معروفة، أما طبيعة وطرق العلاج، فحتى الآن هي غير معروفة، أو على الأقلّ غير مضمونة، لارتباط العلاج بسلة تفاهمات وتسويات دولية في المنطقة، لا تزال متعثرة، لا دور مؤثر للبنان فيها، بل ينتظر لبنان أن تنعكس نتائجها على ملفه، وفقاً لعقارب الساعة الخارجية، ذلك أنّ اللبنانيين هم أصلاً عاجزون عن إدارة شؤونهم على المستوى الوطني، بما يسمح للعوامل الخارجية بأن تتحكم بهم بسهولة داخل بلدهم، وهذا ليس جديداً، فاللبنانيون مبتلون أساساً بداء الغرور، لأنهم يرون في أنفسهم صفات لا يراها الآخرون فيهم، متماهين حيناً بأنهم حماة ديار وممسكو خيوط، محلية أو كونية، ومتباهين حيناً آخر بأنهم فارضو معادلات، في ظلّ الخلل الفاضح الموجود في موازين القوى بينهم وبين كلّ الخارج، فلا يعيرهم الخارج أيّ اهتمام، وبالأخصّ نتيجة انكشافهم بعدم قدرتهم على تحقيق أيّ توافق داخلي مثمر لبلدهم في ظلّ نظام سياسي يُفترض بأنه توافقي، الأمر الذي سبّب لهم، على مدى العقود، تعاظماً وهمياً لدورهم ولأدائهم الخارجي، وانكماشاً حاداً في إدارة شؤونهم الداخلية وفي حلّ مشاكلهم، أدّى الى وقوع البلد في المجهول، بفضل طبقة سياسية فاسدة، بأساسات ميليشياوية، لم تعرف بتاريخها معنى البناء والتقدّم والنمو، هرولت وراء الاستدانات المالية المتكرّرة، فحققت منافع مالية فئوية طائلة على مدى عقود، عن طريق النهب المنظم لخزينة الدولة وأموال الناس، عبر صناديق مالية ومشاريع اقتصادية وتنموية وهمية، فهدمت الهيكل فوق رؤوس أصحابه، وبوجود قوى سياسية أيضاً، يظنّ نصفها بحياد لبنان على أنه ايجابي، فيما النصف الآخر يجزم بأنّ قوة لبنان لم تعد بضعفه، الأمر الذي فرمل الاقتصاد وأوقف النمو وشرّع التسويات السياسية الداخلية، وكل ذلك كان يحصل بحجة بناء الدولة والحفاظ على الوحدة الوطنية، بأيادٍ لا تعرف أصلاً معنى البناء، وبعيدة لسنوات ضوئية عن مفهوم الوحدة الوطنية.
فالطوائف في لبنان تتميّز كلّ منها بخصوصية، لا تتلاقى برؤيتها أو بأهدافها التاريخية مع بعضها البعض، خصوصاً في المواطنية، أو طبيعة الهوية، أو تحديد دور لبنان في محيطه، وما شاكل من عناوين مفصلية لا يستقرّ البلد إلا بتوحيد الرؤى حولها، الأمر غير المتوفر حتى الساعة، بل على العكس، فقد أدّى الخلاف حول تلك العناوين الى حالة من التباعد والنفور بين المكونات الطائفية وصلت أحياناً الى حدّ العنف في التعاطي في ما بينها، بما أفقد البلد خصوصيته الوطنية الجامعة، لصالح امتيازات الطوائف، والتي لا يزال بعضها يراهن على منطق الغلبة والنفوذ على خلفيات ايديولوجية لا يمكن تسويقها في أيّ مجتمع تعدّدي، مهما حاول أصحابها ذلك، بالسر والعلن، سواء على المستوى اللبناني الضيق أو على المستوى العربي العام، حتى باتت التفاهمات بين القوى السياسية الطائفية مقتصرة على المحاصصات الفئوية الضيقة وعلى نهب الأموال المخصصة لمشاريع تنموية بقيت حبراً على ورق، وعلى نفخ حجم الدولة بكتلٍ بشرية وظيفية استزلامية جاهلة وغير كفوءة، ساعدت على المزيد من استنزاف المال العام لدواعٍ مصلحية وانتخابية، مما يعني بأنّ لبنان كان ولا يزال محكوماً بقوى خدمت أعداءه على مدى العقود الماضية، على حساب دماء شهدائه ومصالحه الوطنية العليا، وألحقت الضرر الفادح بمواطنيه وبمستقبل أجيالهم، لعقود لاحقة، عن سابق تصوّرٍ وتصميم، وأرهقته في الصميم.
فإذا كان لبنان ينفع لأن يكون واحةً في محيطه، فلا يجوز أن يكون ساحةً لأعدائه، فللواحةِ قوانينها والتزاماتها، بعيداً عن منطق الإذعان والاستسلام، وللساحةِ اعتباراتها وقراءاتها، بعيداً عن منطق العصبوية والفرض والاستقواء، فلكي يكون لبنان ذا شأن ودور، عليه ان يجد له مكاناً في قطار الحاجة الدولية اليه أولاً، لا أن يصل بنتيجة أدائه الى فرض العقوبات عليه، يعني ان يكون قادراً على فرض نفوذه انطلاقاً من عناصر قواه الذاتية، بإجماع وطني غير مختلَف عليه، وإلا بقي عرضةً للاختراق والفوضى وعدم الاستقرار.
وإذا كان شعب لبنان ينفع لأن يكون موحَّد الهوية، فلا يجوز بأن يكون منقسم الإرادة، فوحدة الهوية تحتم على اللبنانيين التفاهم على الثوابت الوطنية التي تصون بلدهم بعيشه المشترك، لا كشرط، بل كواقع موجود، يكون تحت سقف القانون الذي ينظم العلاقة بين المواطنين، ويطبّق العدالة في ما بينهم من دون أيّ تفريق، صوناً لحقوقهم، وتعزيزاً لانتمائهم الوطني، لكي لا يبقى لبنان مشروع وطن، ومن دون إدخال عامل الدين الذي يبقى عاملاً فردياً إرادياً حراً، سقفه الإيمان بالله وباليوم الآخر.
فالتجاذبات الداخلية الحاصلة في لبنان، تتمحور الى حدّ بعيد حول طبيعة دور لبنان في المنطقة، فـ “إسرائيل” هي شرّ البلاء في هذه المنطقة، ولولا وجودها لازدهرت البلاد واستقرّت العباد، بما يعني انّ على لبنان أن يبني قدراته الذاتية للدفاع عن وجوده في وجه غاصب محتلّ، لكن بناء القدرات يلزمه وحدة قرار وطني داخلي، لا يؤمّنه سوى جيلٍ جديد واعد، بذهن غير طائفي، يأتي عبر صناديق الاقتراع، تلافياً لتكرار النتائج المدمّرة التي نعيشها اليوم على الحجر والبشر، قادتها طبقة سياسية خسرنا معها حاضرنا ولم نكسب بسببها مستقبلنا، ينبغي ان تتغيّر ولا ينبغي لها ان تستمرّ. وللحديث تتمة…