لبنان على المفترق… أو موسى الصّدر!
} حسن الدّر
إذا كانت السّياسة فنّ الممكن، فهذا يعني أنّها فنّ تطويع المواقف حسب الظّروف الدّاعية إليها، وفنّ التّقلّب والتّبدّل تبعاً للمصالح والمطامع، فلا صديق دائم ولا خصم دائم، ولا موقف ثابت، ويعني بالضّرورة، أنّ الأكثر تقلّباً ومرونة، هو الأكثر حنكةً ودهاءً وذكاءً!
أمّا أن تنهج في السّياسة منهج الثّبات، وتبقى مواقفك صالحة لعقود من الزّمن، بل وتكون مواقفك هي الحلّ النّظريّ لكلّ أزمة عمليّة، وتصبح تعويذة خلاص يردّدها زعماء الأحزاب والطّوائف على اختلاف مشاربهم، كلّما دعتهم الحاجة إلى إعلان انتمائهم وتأكيد انتسابهم إلى لبنانهم، فتلك ميزة تفرّد بها الإمام موسى الصّدر، على غيره من أهل الدّين والسّياسة معاً.
هذا الإمام الّذي حطّ رحاله في وطننا الصّغير، أتت حركته من خارج السّياق السّائد، فقد بدا واثقاً من خطواته، عارفاً بقدراته، مؤمناً بقضيّته، فقال: لا أحد يحدّد لي دوري، دوري محدّد من السّماء.
وهو، بالطّبع، لم يدّعِ وحياً ولا نبوّة، لكنّ سيرته تنبئ عن فهم عميق لسير الأنبياء والأولياء والصّلحاء، فكانت وظيفته ودوره إحياء لمناهج الصّالحين في إدارة شؤون الدّنيا والدّين..
وحتّى لا تختلط المفاهيم على الوعي الشّرقيّ عموماً، والشّيعيّ خصوصاً، قال موسى الصّدر: لا أريد تسييس الدّين بل تديين السّياسة، وهو بالمناسبة، أوّل مجتهد يقود حركة إصلاح سياسيّة واجتماعيّة منذ ثورة الامام الحسين، فقال: أمل إرثها في ثورتك يا وراث الأنبياء، ليعيد للمجتمع حيويّة النّهضة وحركيّة الثّورة، وليضع كلّ مؤمن أمام تكليفه الإيمانيّ برفع الحرمان ومحاربة الطّغيان، فصار بذلك، ولا يزال، علامة فارقة في حركته السّياسيّة، وكان ولا يزال مالئ قلوب اللّبنانيين وشاغل عقولهم، حبّاً واحتراماً، ومصدر إلهام لكلّ باحث عن وطن في غياهب الدّويلات المتحكّمة بالدّولة.
اثنان وأربعون عاماً مضت على تغييب قلب لبنان النّابض بالحرّيّة والسّيادة والكرامة الوطنيّة.
اثنان وأربعون عاماً مضت على سجن لبنان في أقبية الطّائفيّة والزّبائنيّة والتّبعيّة الخارجيّة.
إثنان وأربعون عاماً مضت، وما زال عقل لبنان السّياسيّ عاجزاً عن اجتراح وصفةٍ واحدة لمشكلة واحدة، أفضل ممّا اجترحه عقل موسى الصّدر لمشاكل لبنان الدّاخليّة والخارجيّة.
وسيراً على خطاه، مضت ثمانية وعشرون عاماً، وما زال وريث نهج الإمام الصّدر، الرّئيس نبيه برّي يطرق أسماع المسؤولين بلسان إمامه: اعدلوا قبل أن تبحثوا عن وطنكم في مقابر، أو مزابل، التّاريخ.
ثمانية وعشرون عاماً، يقف فيها نبيه برّي على رأس كلّ سنة صدريّة، في الواحد والثّلاثين من آب، يذكّر بأطروحة الإمام الصّدر لخلاص لبنان:
– إلغاء الطّائفيّة السّياسيّة.
– اعتماد لبنان دائرة انتخابيّة واحدة خارج القيد الطّائفي.
– الدّعوة إلى دولة مدنيّة حديثة.
– “إسرائيل” عدوّ أيديولوجيّ، وسورية شقيقة جغرافيّة وتاريخيّة وحاجة استراتيجيّة.
– الوحدة الوطنيّة أفضل وجوه الحرب مع “إسرائيل”.
هذه الثّوابت لم ولن يجرؤ أحد على مخالفتها علانيّة، وإن عمل على نقيضها سرّاً، حفظاً لمكاسب طائفيّة أو سياسيّة ضيّقة، جعلت لبنان على رأس قائمة الدّول الفاشلة والفاسدة، بل ومهدّد بالاختفاء كما قال وزير خارجيّة فرنسا لو دريان!
وها نحن مجدّداً على موعد متجدّد للاحتفاء بفكر موسى الصّدر في ذكرى تغييبه، وعلى موعد مع الإطلالة السّنويّة للرّئيس نبيه برّي، ليدعو ويذكّر، وهو الّذي ما كلّ ولا ملّ، يأمر بالوطنيّة وينهى عن الطّائفيّة، مستلهماً روح موسى الصّدر، الّذي ورث إرث الأنبياء بوراثة ثورة الإمام الحسين.
ويبدو أنّ نبوءة الإمام الصّدر قد تحقّقت، فقد اشتدّت المِحَن، وامتلأ الزّمان بالذّئاب، تنهش في لحم الوطن والمواطن، ولا بدّ من وضع النّقاط على الحروف، ونبيه برّي الثّائر، قد يقف على منبر الصّدر، في ذكرى تغييبه، المتزامنة مع ذكرى عاشوراء، ليدعو إلى الإصلاح، صارخاً بوجه العابثين بما تبقى من وطن: إن لم تكونوا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في وطنكم…
اللهمّ إنّي بلّغت، اللهمّ فاشهد!