الصراع على سورية
} د. ادمون ملحم
منذ بضعة قرون بدأت الدول الأوروبيّة وعلى رأسها بريطانيا بنشاطها الاستعماري ومحاولة الاستيلاء تدريجياً على بلدان العالم بحجة تمدينه مدفوعة بنظرة استعلاء تجاه الشعوب واحتقار لقيمها وعدم اعتراف بثقافاتها وإنسانيتها.. وتحت شعار تمدين العالم فرضت هذه الدول الاستعمارية هيمنتها على الشعوب بالقهر العسكري والاقتصادي والثقافي فاستعبدتها وطمست هوياتها وشلّعت مجتمعاتها ودمّرت ثقافاتها ونهبت ثرواتها على مدى قرون سوداء بطريقة ديمقراطية مبرمجة. هذه الدول الاستعماريّة التي كانت تتصارع على امتلاك أسباب التفوّق وتتنافس في ما بينها على ثروات العالم على قاعدة الاعتراف بحقوق بعضها البعض شنت الحملات الصليبيّة المتلاحقة على الشرق الأدنى متخذة من سلاح الدين غطاء لمطامعها. وبدأت منذ القرن الثامن عشر بتوسيع سيطرتها على سورية الطبيعية بعمليات غزو اقتصادي وثقافي وسياسي ومن خلال نشاط الإرساليات التبشيرية والرحالة الباحثين والمنقبين وجلهم من العسكريين والتجار والوكلاء الأوروبيين والقنصليات الديبلوماسية وتدخلاتها بحجة حماية الأقليات الدينية والإثنية.
هذه الدول الأوروبية المتصارعة لم تكن بحاجة لإيجاد تقسيم سياسي عام لسورية، لأنها كانت تتحكّم بها عبر السلطان العثمانيّ ومن خلال نظام الامتيازات الأجنبية الذي كان يخولها التدخل في شؤون السلطنة الداخلية والخارجية والتأثير على أوضاعها بإثارة الفتن الطائفية والنعرات العنصرية والإقليمية. ولكن انحلال الدولة العثمانية وغيابها بعد الحرب العالمية الأولى ونتيجة لتوازن القوى بين الدول الاستعمارية التي اشتد الصراع فيما بينها من أجل اقتسام تركة الرجل المريض لجأت هذه الدول إلى استراتيجية التقسيم المعتمدة في اتفاقية سايكس – بيكو المشؤومة التي أدت إلى نشوء كيانات عدة هزيلة ووضعها تحت الانتداب الفرنسي – البريطاني وإلى إعطاء اليهود وعداً بريطانياً لا حقوقياً بمنحهم فلسطين وطناً لهم والتعهد بحمايتهم ومساعدتهم لاحتلالها وإقامة دولة «إسرائيل» عليها التي ستكون قاعدة استعمارية لمصالح الغرب وعائقاً امام تطور العالم العربي وممزقاً لأوصاله وعاملاً على إضعافه وإرباكه.
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية:
بعد الحرب العالمية الثانية وتضعضع الدول الأوروبية الغربية تبدلت مواقع القيادة والتراتبية في سلم القوى الدولية وانتقل مركز الزعامة والهيمنة في النظام الرأسمالي من فرنسا وبريطانيا إلى أميركانية التي سعت، وخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، للسيطرة على العالم والهيمنة على مقدراته بحجة نشر الحرية والديمقراطية وحقوق الأقليات والانسان. ولكن هذا التبدل في مواقع القيادة لم يُغيّر في نظرة الغرب الاستعلائية تجاه الشعوب ولم يبدّل في ممارساته الاستعمارية وجرائمه البربرية الفظيعة. فتاريخ الغرب القديم والحديث هو تاريخ إجرام وإرهاب بحق كل الشعوب وهو تاريخ استغلال وظلم واستعباد للشعوب ونهب لخيراتها وثرواتها. فهذا الغرب المتغطرس مزّق سورية وسلخ منها أجزاء غنية وأعطاها للأتراك.. وهذا الغرب زرع في سورية الجنوبيّة الكيان العنصري الغريب الذي التقت مصالحه مع مصالح دوله الاستعمارية والذي شكلت جرائمه المستمرة بحق شعبنا امتداداً للبربرية الغربية وجرائمها. وهذا الغرب يقف وراء هذا الكيان الغاصب يغطي جرائمه ويوفر له المال والسلاح ويتعاطف معه في توسعه ويدافع عن ممارساته العنصرية واعتداءاته بكل قوة ولولاه لما كان لهذا الكيان مقومات البقاء…
وبالرغم من التطور العلمي والتكنولوجي الذي حققه الغرب، لم يبدّل هذا الغرب من ممارساته الاستعمارية ومن نظرته للشعوب ومحاولة الهيمنة عليها واستعبادها. فهذا الغرب هو كاذب في ادعاءاته ولا تهمه القيم الإنسانية وحقوق الإنسان ولا يفهم إلا لغة مصالحه وهو مَن رعى ولعقود من الزمن الديكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية والشمولية والرجعية في مختلف دول العالم ضد القوى المناهضة للظلم والمطالبة بالحرية والديمقراطية.
فمن يصدق ان أميركانية ودول الاستعمار القديم تريد العدالة والحرية والديمقراطية والسلام لشعوب العالم العربي؟
من يصدق أن هذه الدول المعروفة بتاريخها وجرائمها تهمها حرية الشعب السوري في مختلف كيانات الأمة وخاصة في فلسطين؟
ومن يصدّق أن التدمير وسفك الدماء الذي جرى في الشام برعاية أميركية وغربية وصهيونية وبتمويل سعودي – قطري ودعم تركي هما عمل ثوري – إصلاحي لمصلحة شعبنا؟
أليست الولايات المتحدة الأميركانية الساقطة من عالم الإنسانية الأخلاقي هي مَن احتلّ العراق بعد حصاره لسنوات طويلة ودَمّرت قدراته ومؤسساته وجيشه وخرَّبت نسيجه الاجتماعي؟
أليس الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأميركية هو المسؤول عن كل الخراب والدمار في مجتمعنا وعن كل الآلام والمآسي التي أصابت شعبنا وعن كل الضحايا واللاجئين والمشرّدين في العراق وفلسطين ولبنان والشام الذين يعيشون مآسي الفقر والتشرد والمذلّة؟
أليست الولايات المتحدة الأميركية هي الوصي على قطر والسعودية وكل الأنظمة الرجعية – المتصهينة الداعمة والراعية لقوى الإرهاب والتكفير والسلفية التي تتحرّك بعصبيات جاهلية وتمعن في القتل والذبح وفي تدمير الشام دولة ومجتمعاً وحضارة؟
طبيعة الصراع على سورية:
إن الصراع على سورية هو صراع المصالح الكبرى وأبعادها الدولية، صراع على النفوذ والمصالح الاقتصادية ومصادر الطاقة وطرق إمدادها. فالأطراف المعنية بالصراع تتحرك فقط من خلال مصالحها وأطماعها في السيطرة على الهلال الخصيب وموارده الطبيعية وأهمها النفط والغاز والمياه. فالسيطرة على سورية الطبيعية هي مفتاح سيطرة أي دولة امبراطورية على العالم بأسره. ولقد قيل إنه عندما تفقد الدولة الإمبراطورية سيطرتها على الهلال الخصيب الذي يقع في منتصف العالم والذي يشكل ممراً هاماً لعمليات التجارة الدولية ولحركة الاقتصاد العالمي، تفقد هذه الإمبراطورية سيطرتها العالمية وتصبح دولة عادية. وانطلاقاً من هذه المقولة يمكننا القول إن الصراع على سورية (بما فيها لبنان) او بالأحرى الحرب الكونية على سورية هي حرب مصالح وأطماع في الهيمنة والسيطرة على المخزون النفطي والغازي وعلى المواقع الهامة والاستراتيجية. إنه صراع على المناطق الغنية بالطاقة النظيفة أي الغاز وعلى المخزون الهائل منه الموجود على الشواطئ السورية. فحجم الصراع الكبير على سورية الطبيعية ليس فقط بسبب موقعها الجيو – استراتيجي بل بسبب الثروة الهائلة الموجودة على شواطئها وهذا ما يعطيها مكانة كبيرة.. والمعروف أن الغاز يشكّل فعلياً مادة الطاقة الرئيسة في القرن الحادي والعشرين في الوقت الذي يضمحل فيه تدريجياً احتياطي النفط عالمياً. وفي هذا الصراع تحاول الولايات المتحدة الأميركانية توسيع سيطرتها على تجارة النفط العالمية بتضييق الخناق على الدول الناهضة ومنعها من منافستها وبحصار روسيا وإضعافها من خلال سحب عقود الغاز الأوروبية منها وإمداد أوروبا بالغاز عبر حلفائها السعودية وقطر ودولة العدو «إسرائيل».
استراتيجية الولايات المتحدة الأميركانية:
ان الولايات المتحدة الاميركانية لا تريدنا ان نكون شعباً واحداً ومجتمعاً واحداً، بل هي تريدنا ان نكون دويلات مذهبية واثنيات متناحرة تدور في فلك الكيان الصهيوني وتخضع لمشيئته. فاستراتيجيتها هي منع قيام دولة قوية في الهلال الخصيب لذلك فهي تستخدم الغرائز الدينية والعصبيات المذهبية وتسعى لخلق الفتن الداخلية لإبقائنا في حالة ضعف وتفكك خدمة لمصالحها وأطماعها في الهيمنة والسيطرة على منابع النفط والغاز وفي التحكم بشرايين اقتصادياتنا بحجة الديمقراطية. فهذه الاستراتيجية غايتها الهيمنة عالمياً والسيطرة على الطاقة والتحكم بإمداداتها وغايتها الدفاع عن الدولة المارقة «إسرائيل»، التي تمثّل «الشرُّ المطلق» كما يقول الإمام المغيّب موسى الصدر، وضمان أمنها وتفوقها عبر نقل الصراع إلى داخل العالم العربي أي بين المكونات الاجتماعية لدوله وإدخالها في فتن دامية مما يؤدي بالنتيجة إلى تفتيت هذه الدول إلى كيانات مذهبية وعرقية متصارعة وإلى نسيان صراعنا مع العدو الصهيوني.
الحرب الشاملة:
إن سورية الطبيعية تواجه اليوم حرباً شاملة على وجودها أولاً من قبل كيان غاصب يمثِّل مشروعاً عنصرياً واستعماراً إحلالياً يستهدفُ اجتثاثَ وجودِنا بالحروبِ التدميريةِ والاعتداءات المستمرة التي يشنُها علينا وثانياً من قبل دول عظمى تدّعي الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، ولكنها في الحقيقة دول استعمارية إرهابية عريقة في قهر الشعوب وظلمها وفي نهب ثرواتها وخيراتها.. سورية اليوم تواجه تنيناً مفترساً يشرئبُ برؤوسه المتعددة ليبتلعنا، تنيناً متعدد المقابض المخلبية الفتاكة يطاردنا وينكر علينا وجودنا ولا يكفّ عن ارتكاب المجازر والجرائم بحق شعبنا.. يقتل الرجال والشيوخ والنساء والأطفال.. يغتال القادة والعلماء والنخب الثقافية والاجتماعية.. يشوّه المعالم الحضارية ويدنّس المقدسات، يدّمر مدننا ومرافقها الحياتية ومؤسساتها الاقتصادية والإنتاجية ويستولي على الممتلكات.. هذا التنين الحقود غايته تصفية المسألة الفلسطينية والقضاء على روح المقاومة في شعبنا وعلى إرادة الحياة فينا، وإخضاع هذه الإرادة لمشيئته وإملاءاته وهذا لا يتم إلا بتخريب مجتمعنا وضرب قواه واضعافها عبر التفتيت والتجزئة وإشعال نار الفتن الداخلية حتى لا يبقى أي قوة يمكن أن تشكل تهديداً لأمن الكيان الصهيوني..