أسباب متراكمة لمصلحة الأتراك في الصراع على بحر الروم؟
} د. وفيق إبراهيم
تمنح اعتبارات كثيرة وعميقة تركيا فرصة فريدة لتحقيق دور إقليمي كبير، تطمح بواسطته التسلل الى زعامة في الشرق الأوسط وربما في العالم الإسلامي.
لا بد في مطلع الأسباب من الإقرار بأن تركيا نموذج 2020 تختلف عن تركيا المهزومة بموجب معاهدة لوزان في 1923 والدليل أنها أصبحت قوية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وتكفي الاشارة الى انها تمتلك الجيش البري الثاني في القوة في إطار حلف الناتو بعد الأميركيين ولديها آليات حكم منتجة في مجالس النواب والجمهورية والحكومة. الى جانب علاقات سياسية متينة مع المحاور الاساسية في العالم.
كما وتمكّنت من تأسيس نظام اقتصاديّ مستقر بمدى عالمي مفتوح ومتمكن.
فهل تستطيع تركيا الفوز بالصراع الدولي على مصادر الغاز في البحر الأبيض المتوسط وبعض بلدانه؟
هذه المعركة صعبة لأنها تضع اليونان وقبرص ومصر والكيان الإسرائيلي المحتل في مواجهتها بدعم فرنسي – ألماني – إيطالي مباشر ومعظم أوروبا بشكل غير مباشر.
ما يجعل التوازن هو السمة الغالبة على حالة الاحتراب. مؤدياً الى تجميد مشاريع الحروب إنما وسط استمرار التهديدات والصراخ وأعمال الحفر في عمق البحر.
للإشارة فإن العرب قبل وصولهم الى سورية كانوا يسمون البحر الأبيض المتوسط ببحر الروم لأن السيطرة كانت للرومان لكنهم بعد انتصارهم على الروم في معركة ذات الصواري أطلقوا عليه اسم بحر اللاذقية.
أما الدول العثمانيّة فحاولت في أوج تألقها السيطرة على البحر المتوسط، لكن تحالفاً فرنسياً إيطالياً انكليزياً إسبانياً هزمها في معركة «ليبانت» البحرية في 1571.
فأصبح البحر أوروبياً واسمه البحر الابيض المتوسط.
فما هي العناصر الأخرى التي تمنح الأتراك ميزة التفوق في معركتهم المتوسطية؟
للأتراك ساحل كبير على هذا البحر وأدوار يحتلون فيها قسماً من اراضي العراق وسورية ولديهم قوات عسكرية في دولة السراج في ليبيا مع نفوذ سياسي ايديولوجي في تونس ومصر والجزائر وليبيا بعمق سوداني.
أما العنصر الثاني فهو انتماء حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم الى فدرالية الاخوان المسلمين. وهذا يدعم جوارهم الجغرافي لقب الشرق الغربي، فيصبحون متمكنين في الجغرافيا المجاورة والايديولوجيا الاخوانية معاً.
واذا كان العامل الايديولوجي لا يعطيهم السيطرة الكاملة على هذه الأنظمة العربية فإنه يمنحهم ولو بالسلب ادواراً هامة داخل هذه الدول، وخصوصاً المتوسطية منها، من المغرب وحتى سورية مروراً بشمال أفريقيا ومصر، قد تكون أدوارهم فيها ليست حاسمة لكنها مقبولة وبوسعها اللعب على عامل الفوضى والعبث بالاستقرار.
إن ما يعزز هذا الفلتان التركي فهو الضعف العربي الذي لا يمتلك الا وسيلة الابتهال والتوسل الى «الغربي» للجم الجنون العثماني.
لجهة الدول العربية المتوسطية فليس لديها ما تجابه انقرة به، باستثناء سورية التي أوقفت التآمر التركي عليها مع الارهاب عند حدود منطقة إدلب.
هذا الضعف العربي الذي يتجسد في تهديد مصري لتركيا التي تلعب دوراً عسكرياً في ليبيا، لكن صراخ السيسي ليس له ترجمة عسكرية، بالإضافة الى العراق الذي يكتفي باعتماد وسائل الإعلام للرد على احتلال تركي لأراضيه مصحوب بقصف جوي مرات عدة شهرياً لتأكيد دورها الاستعماري فقط.
هناك نقطتان إضافيتان تؤكدان أهمية تركيا، الاولى هي انتماؤها الى حلف الناتو، ما يفرض على الأميركيين الاكتفاء بانكفائها وتهديدها انما من دون أي تنفيذ فعلي ميداني وذلك خشية انحيازها الى الحلف الروسي – الصيني في مرحلة خطيرة جداً يتكون فيها نظام عالمي جديد يتجه لوراثة الاحادية القطبية الاميركية.
لذلك فتركيا تتمتّع برعاية من الأميركيين والروس المتنافسين في آن معاً، فموسكو تحاول جذبها من المحور الأميركي بإغراءات اقتصادية وجيوسياسية وواشنطن تتغاضى عن الشرق التركي حتى حين يعتدي على بلدان موالية للنفوذ الغربي، كما يحدث مع قبرص واليونان ويناهض السعودية في أدوار مدعومة أميركياً في العالمين العربي والإسلامي.
فإذا كان انتماؤها الى الناتو عامل قوة لها فإن علاقاتها بروسيا قد تصبح أكثر أهمية مع ازدياد حركة السطو الأميركي على الشرق الأوسط بشكل لا يترك فيه حتى مجرد فسحات صغيرة للأتراك والأوروبيين.
هذا ما يستفيد منه اردوغان في سياساته الرامية الى الاستفادة من الروس والأميركيين في آن معاً؛ والدليل ان حفارات بلاده البحرية تواصل التنقيب داخل البحر المتوسط ضمن المدى الإقليمي اليوناني والقبرصي وتهدّد مصر وأي طرف يقترب منها وتنشر وحدات عسكرية في ليبيا التي عقدت معها معاهدات للتنقيب عن النفط والغاز في البحر والبر.
هناك نقطة هامة تتعلق بسيطرة تركيا على أهم نهرين عربيين يشكلان الحياة الزراعية في العراق وسورية ويرويان ظمأ 50 في المئة من السوريين و85 في المئة من العراقيين وهما نهرا دجلة والفرات اللذان ينبعان من تركيا، التي تواصل بناء السدود على مجراهما.
لكن حروب المياه التركية لم تبدأ بعد فعلياً، لذلك فمن المنتظر أن حجباً تركياً للمياه عن سورية والعراق لن يتأخر كثيراً لأن تركيا تربطه بنفوذها السياسي والاقتصادي في البلدين، وما قطع المياه عن مدينة الحسكة السورية لأكثر من شهر إلا العينة الأولى للإجرام التركي المرتقب، فمقابل الاستمرار في السماح بانسياب دجلة والفرات يطمح الأتراك لنفوذ كبير في هذين البلدين.
تركيا الى أين؟ تستمر باللعب في البحر المتوسط وسط ضغط أميركي لتقسيم ثرواته بين أوروبا ومعها قبرص واليونان، وتركيا مع الاحتفاظ بـ»الحقوق الوطنية» لـ»إسرائيل» ومصر.
ولن يستطيع ايقاف الأتراك الا محور قابل للتسلل من ثلاث دول حدودية مجاورة لها وهي سورية والعراق، وإيران المحاصرة.
وهذا يتطلّب الصبر حتى استكمال التراجع الأميركي الذي لن يكون الا الإشارة لوقف الاستعمار التركي الجديد ولو بالقوة العسكرية وبتوازنات قوى جديدة.