أبو علي مصطفى… عدنا لنقاوم ولم نأتِ لنساوم
} رامز مصطفى*
لا بدّ من الاعتراف أنّ الكتابة عندما تتعلق بشخصية مثّلت استثناء في مسيرة حياتها، من المؤكد أن تجد صعوبة في اختيار الكلمات والعبارات حتى تفيها حقها، ولن تفيها هذا الحق. فكيف إذا كنت من تريد الكتابة عنه قد مثّل في حياته النضالية قامة وطنية وثورية من قامات شعبنا الفلسطيني ومسيرة كفاحه ومقاومته على امتداد مراحل ثورته المعاصرة منذ العام 1965. تلك القامة هي القائد الثوري الرفيق الشهيد أبو علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
عندما تُقلّب صفحات مسيرة حياة الشهيد أبو علي مصطفى، أول ما يلفت نظرك أنّ ذاك الإنسان لم يصل إلى ما وصل إليه خلال مسيرته النضالية والكفاحية، وحظي بما حظي به من تقدير واحترام وإقرار بدوره، وما تركه من بصمات واضحة وضوح الحق الفلسطيني، وسطوع عدالة قضيته كسطوع الشمس. فهذه الشخصية استمدّت حضورها ودورها كمناضلٍ وقائد ثوري وشعبي، من جذور شخصية عاشت حياة الفقراء والكادحين من أبناء شعبنا منذ نعومة أظفاره، فكان بروليتارياً بالفطرة، قبل أن تُثقل تجربته النضالية بثقافة وفكر الاشتراكية العلمية التي تنبتها الجبهة الشعبية، وهو العضو المؤسّس فيها إلى جانب حكيم الثورة الشهيد الكبير الدكتور جورج حبش.
وإن كان شهيدنا الوطني الكبير قد تميّز بالتواضع والبساطة، كانعكاس طبيعي لشخصيته، غير أنّه كان صلباً ومقداماً وملتزماً بقضيته وعناوينها وثوابتها الوطنية، ومتمسكاً بخيار شعبنا في المقاومة، الذي اعتبره الطريق الوحيد لتحرير كامل أرضنا الفلسطينية من رجس الاغتصاب الصهيوني، مهما كبرت التضحيات وتعاظمت التحديات بسبب انخراط البعض الفلسطيني في التسوية وتوقيعه على اتفاقات «أوسلو»، وهو القائل: «معركتنا وصراعنا مع الكيان الصهيوني مسألة استراتيجية لا تخضع لأيّ اعتبارات، فنحن لا نعتبر ما هو قائم تسوية ولا سلاماً، نحن نعتبر أنّ من حق الشعب الفلسطيني أنّ يناضل بكلّ الأشكال بما فيها الكفاح المسلح، لأننا نعتبر أنّ الثابت هو حالة الصراع، والمتغير قد تكون الوسائل والتكتيكات، هذه سياستنا».
أبو علي مصطفى الذي عرفته ساحات العمل الوطني المقاوم، داخل فلسطين المحتلة ودول الطوق في الأردن ولبنان وسورية، قد سخّر حياته في تطوير جبهته المناضلة، إلى جانب رفاقه المؤسسين لها، لجعلها فصيلاً وحزباً رائداً في الساحة الفلسطينية، خدمة للهدف الأسمى، هدف التحرير والعودة. وعلى خطٍّ موازٍ كانت علاقاته الكفاحية مع فصائل العمل الوطني، علاقات تتسم بالوحدوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، التي كان عضواً في لجنتها التنفيذية ومجلسها الوطني والمركزي. وهو لطالما كان يدعو ويعمل من أجل المحافظة على وحدة المنظمة، كأداة وطنية وسياسية، على الرغم ما تمّ ارتكابه باسم المنظمة في التوقيع على اتفاقات «أوسلو» 1993، التي اعتبر السلطة امتداد لها، بينما المنظمة ثمرة لإنجاز وتضحيات شعبنا، لذلك كان يدعو إلى إعادة بناء مؤسساتها.
في العام 1999 قرّر أبو علي مصطفى العودة فلسطين المحتلة بما فيها أراضي السلطة الفلسطينية، حيث جنين مدينته التي غادرها قبل 63 عاماً، بفعل الاحتلال والاغتصاب الصهيوني لأرضنا. عاد الشهيد الحي يومها وهو قانع أنّ العدو الصهيوني وأجهزته الأمنية ستكون له بالمرصاد، ولن تغفر له تاريخه المقاوم، وهو القائد العسكري للجبهة قبل أن يُنتخب أميناً عاماً. لقد شكلت عودة أبو علي مصطفى إلى أرض الوطن الرافعة لاستنهاض همم، أولاً رفاقه في الجبهة، وثانياً لدى المناضلين والنخب من أبناء شعبنا في مختلف الفصائل والقوى الفلسطينية، التي انخرطت في فعاليات انتفاضة الأقصى في العام 2000، حيث أعطت عودة الشهيد أبو علي مصطفى دفعاً ملموساً في اتساع رقعة أعمال الانتفاضة، وهذا ما أدرك مخاطره العدو الصهيوني وأجهزته الأمنية والعسكرية، بعد أن تلمّس جدية ما ذهب إليه في مقولته الشهيرة : «عدنا لنقاوم، ولم نأت لنساوم»، لذلك اتخذ العدو القرار الأخطر باغتيال أبو علي مصطفى في آب 2001، فسقط شهيداً، مترجماً بذلك ما كتبه غسان كنفاني في قصة (المدفع): «كم هو بشع الموت، وكم هو جميل أن يختار الإنسان القدر الذي يريد».
*كاتب فلسطيني