أولى

«التطبيع الوهميّ»… والمقاومة الشعبيّة العروبيّة

 د. جمال زهران*

 

منذ أن تمّ الإعلان عن الاتفاق الإماراتي/ الصهيوني، برعاية أميركيّة برئاسة «ترامب»، في 18 آب/ أغسطس 2020، وردود الأفعال على كافة المستويات، لم تتوقف. حيث جلدت كلّ الانتقادات ظهر دولة الإمارات وسلطتها الحاكمة، ونقلها من صفوف الأصدقاء إلى الأعداء، نتيجة لاعتدائها على ثوابت الأمة والتخلي عن القضية الفلسطينية. بينما علت أصوات وبشكل خافت ومحدود، ممن ينتمون إلى معسكر كامب ديفيد وتوابعها أو أخواتها، أو ينتمون إلى مصالحهم الشخصية، تحاول أن تدافع عن موقف الإمارات وتؤيد بل وتبارك هذه الخطوة التي وصفت بـ «الجريئة»! بل أن أغلب هؤلاء المؤيدين والذين ينتشرون في الصحافة المصرية خصوصاً، وبعض الصحف العربية وخصوصأً صحف الخليج العربية، ينتمون إلى فريق كوبنهاغن، وهم المدعومون من أميركا و«إسرائيل» عبر عواصم أوروبية، وفي مقدمتهم المدعو/ عبد المنعم سعيد وأمثاله، والذي يترأس مجلس إدارة صحيفة «المصري اليوم» في القاهرة والمموّلة أميركياً على شهود العيان! وبشكل علني لا ينكره أحد!

وقد طرح البعض الدوافع والأهداف من وراء هذه الاتفاقية الإماراتية/ الصهيونية، وخلص كثيرون إلى أنها محاولة لإنقاذ ترامب في الانتخابات المؤكد سقوطه المروع فيها في الثلاثاء الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ولإنقاذ نتنياهو المؤكد أنه ذاهب إلى انتخابات برلمانية رابعة، وهو على كفّ عفريت، رغم أنه يتظاهر أنّ موقفه ممتاز، ويضحك ويبتسم كأنه المنتصر وهو المهزوم داخلياً، وفي طريقه إلى المحاكمة، التي ستقوده إلى السجن المؤكد! وإذا تساءل البعض عن سبب قيام الإمارات/ محمد بن زايد، بذلك، فالردّ سريع، أنّ مستقبل ابن زايد وابن سلمان وغيرهما، مرتبط باستمرار «ترامب ونتنياهو»، للأسف! وحال سقوط ترامب، وهو مؤكد، فإنّ هؤلاء يصبحون على كف عفريت، ونظمهم آيلة للسقوط، ان لم تتعرّض للسقوط الفعلي.

وقد تجاهلت الإمارات، القضية الفلسطينية وانعكاسات مثل هذا الاتفاق عليها وعلى موقف الفلسطينيين، بل وتنكرت للمجهودات السابقة لدولة الإمارات في عهد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الداعمة للقضية الفلسطينيّة للأسف!!

لذلك لم يكن مفاجئأً، ردّ الفعل السريع من السلطة الفلسطينيّة، بسحب السفير الفلسطيني من الإمارات، وتجميد العلاقات الدبلوماسيّة مع الإمارات، بل والتقاء طرفي القضية الفلسطينية الأساسيين (السلطة والتي تعبّر عن منظمة التحرير، وحماس) واتفاقهما على موقف موحّد من الاتفاقيّة بالرفض والاستنكار، ومن دولة الإمارات!

في الوقت ذاته لم يكن مستغرباً أن تكون الحكومة المصرية أول مَن تبادر بإعلان تأييد الرئاسة لهذه الاتفاقية وتباركها لما لها من انعكاسات على الاستقرار في الإقليم، وذلك على خلفية أن «مصر» (السلطة الرسميّة)، هي «عمدة التطبيع»، منذ زيارة السادات للقدس عام 1977، وكامب ديفيد 1978، والاتفاقية المصرية الإسرائيلية في مارس 1979! وذلك وسط رفض عربي واسع بينما سارعت بعض الأنظمة في الخليج والسودان باحتمالات السير في هذا الطريق للأسف، أيّ التطبيع لأجل التطبيع! وكما عبّر نتنياهو عن ذلك «السلام مقابل السلام»، من دون أيّ التزامات من جانب «إسرائيل» بأيّ شيء! يا لها من مهانة، ما بعدها مهانة، من هذا «النتنياهو» المغرور، في مواجهة الضعفاء والمستضعفين من نظم عربية ساقطة وفاقدة للشرعية!

وقد كشفت الوقائع في مسيرة الواقع المُعاش من بدء مرحلة «التطبيع»، بزيارة السادات للكيان الصهيوني عام 1977، وما تلاها من اتفاقات (كامب ديفيدوادي عربةأوسلو)، على أنّ هذا التطبيع الذي تمّ كان بين نظم بلا شرعية سياسية، والدليل هو ذلك الرفض الشعبي الكبير لما تمّ. ومن مؤشرات ذلك محدودية حجم العلاقات التجارية بين السلطة المصرية ودولة الكيان الصهيوني، ولم تزد عن (150) مليون دولار في أغلب الأحوال، سنويأً! وكذا الحال مع الأردن! كما أنه على المستوى الشعبي، فإنّ أيّ شخص من المشاهير في الفن أو الرياضة أو الثقافة أو الصحافيين، يبيع نفسه للصهاينة ويعلن موافقته على التطبيع، وبعضهم زار الكيان الصهيوني، يلقى من التجريس والتجريح من القامات الشعبية ومن الجمهور، بل إن بعضهم تعرّض إلى اعتداءات شخصية عندما زار ميدان التحرير لإثبات تأييده للثورة في 25 يناير/ كانون الثاني 2011، حيث لم ينس الشعب خطاياه تجاه فلسطين وإقدامه على التطبيع! ولا يُنسى موقف شباب الثورة في مصر الذين اتجهوا إلى مقر السفارة الصهيونية أمام كوبري الجامعة بالجيزة، واعتلوا سطح العمارة ليسقطوا علم الصهاينة ويحرقوه ويدوسوه بالأحذية! وأغلقت السفارة في هذا المكان منذ ذلك التاريخ، ولا يعرف أحد من أين تدار سفارة الصهاينة؟! والأغلب أنها أصبحت قسمأً في السفارة الأميركية في «غاردن سيتي»! ولا يخفى على أحد ارتفاع أعلام فلسطين في كلّ ميادين الثورات العربية، مع صور الزعيم جمال عبد الناصر.

وقد أقصد من ذكر ذلك كله، حقيقة مهمة وهي: ذلك التناقض بين موقف السلطة في دول عربية لها علاقات مع الكيان الصهيوني، وبين موقف الشعب العربي في كلّ قطر. حيث اتضحت تلك الهوة بين الحكومات الرسمية، وبين الشعب العربي الذي يرفض إعطاء الشرعيّة السياسيّة للحكام في اتفاقياتهم الرسمية مع الكيان الصهيوني، ليتضح في نهاية الأمر. أنّ هذه الاتفاقيات حبر على ورق، وأنّ التطبيع هو مسألة وهميّة.

وخلاصة الأمر، فإنّ كلمة «التطبيع» التي وفدت إلى قاموس اللغة العربية، ترجمة للمصطلح الإنجليزي (Normalization)، جاءت مع كامب ديفيد، لتفسد اللغة العربية، وتنعكس بالسلب على القضية الفلسطينية، ولم تخلق استقرارأً كما يزعمون! بل كانت سبيلاً للتوسّع الصهيوني في الأرض الفلسطينية المحتلة، وسبيلاً لدعم أميركي غير مسبوق خاصة في عهد ترامب الصهيوني، و«صفقة القرن» التي يروّج لها حكام التطبيع. ولذلك فقد تأكد عدم شرعية النظم الحاكمة التي وقعت اتفاقيات التطبيع، وذلك بالتعبير عن مصالحها ومصالح الطبقة العليا المرتبطة بالخارج وبالمشروع الأميركي الصهيوني، من دون مراعاة مصلحة الشعوب التي تتناقض مع وجود المحتلّ الغاصب لأرض فلسطين. حيث إنّ الشعوب ترفض هذه الاتفاقيات وتقاوم بكل ما لديها من إمكانات ضدّها. وبوجود هذه الفجوة بين الحكام والشعوب، فإن التطبيع الرسمي سيظلّ وهمياً، وستظل جذوة النضال الشعبي ضد هذا التطبيع، مستمرة برحيل الكيان الصهيوني وأراه قريباً، وبسقوط الأنظمة التي تعمل في خدمة المشروع الصهيوأميركي، لتأتي نظم وطنية وعروبية تعبّر عن طموحات الشعب العربي وتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني والتحرير والتحرر من ذلك الاستعمار البغيض لتنتهي حقبته إلى الأبد، وتنتهي «إسرائيل» ذلك الكيان المدسوس على المنطقة منذ عام 1948 وللآن، للأبد، فهو إلى رحيل حتمي، لمن يقرأ التاريخ جيداً، ويقف في خندق الشعوب.. لا الحكام منزوعي الشرعية السياسية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى