في مئوية «لبنان الكبير»: التفكيك يسابق التعويم… ما المخرج؟
د. عصام نعمان*
أعلن المفوض السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو قيام «لبنان الكبير» في أول أيلول/ سبتمبر 1920. سُمّي «لبنان الكبير» تمييزاً له عن لبنان الصغير، ايّ متصرفية جبل لبنان التي انشأها العثمانيون بالتوافق مع ستّ دول أوروبية سنة 1864 وربطوا حاكمها العثماني المسيحي (من غير اللبنانيين) بالباب العالي مباشرةً دونما المرور بوالي بيروت أو والي دمشق.
تكبير لبنان تمّ بضمّ ولاية بيروت، أيّ المدينة ذاتها ومناطقها الشمالية (طرابلس وعكار) والجنوبية (صيدا وصور) ومناطق حاصبيا وراشيا وبعلبك التابعة آنذاك لولاية دمشق، الى متصرفية جبل لبنان لتشكّل جميعها «دولة لبنان الكبير».
غير أنّ «لبنان الكبير» لم يكن دولة بقدْر ما كان كياناً، بمعنى إطار قانوني وإداري لنظام سياسي هو ثمرة عوامل ثلاثة: النظام الملّي العثماني، والنظام الإقطاعي الفرنجي (الصليبي)، والرقعة الجغرافية اللبنانية التي احتضنت طوائف وجماعات تأثرت بأحد هذين النظامين او بكليهما.
وعليه، يمكن القول إنّ العمل من أجل قيام كيان لبناني لم يكن، إذاً، نضالاً من أجل ربط أوصال وطن مجّزأ، إذ لم يكن هناك وطن بالمفهوم التاريخي أو الجغرافي أو الحضاري. كان العمل من أجل الكيان اللبناني سعياً حثيثاً من أجل توطيد النظام اللبناني بتمديده إلى الحدود التي تنتهي عندها خلفيته الاجتماعية والسياسية. بكلمة، كانت حدود الكيان هي حدود النظام ذاته.
الرئيس إيمانويل ماكرون يعود الى لبنان ليحتفل مع بعض أصدقائه اللبنانيين بمئوية «لبنان الكبير» في قصر الصنوبر (مقر السفارة الفرنسية) حيث أعلن الجنرال غورو قبل مئة سنة ما يعتبره ماكرون إنجازاً وتراثاً فرنسيين بارزين.
يعود ماكرون وقد سبقته تصريحات له لافتة حول محاذير اندلاع «حرب أهلية في لبنان (…) إذا تركناه بطريقة ما في أيدي قوى اقليمية فاسدة ما يؤدّي إلى تقويض الهوية اللبنانية»، وإشارته الى «قيودٍ يفرضها النظام الطائفي والتي إذا أضيفت الى المصالح ذات الصلة أدّت إلى وضعٍ يكاد لا يوجد فيه ايّ تجديد سياسي وحيث يكاد يكون هناك استحالة لإجراء ايّ إصلاحات». وفي حال عدم تنفيذ الإصلاحات «فإنّ الاقتصاد اللبناني سينهار والضحية الوحيدة ستكون اللبنانيين».
تصريحات ماكرون توحي بأنّ الإخفاق في معالجة الأزمة المستفحلة سيؤدّي الى انهيار كيان لبنان ونظامه معاً. قبله حذّر وزير خارجيته جان – إيف لودريان بأنّ عدم القيام بالإصلاحات المطلوبة يؤدّي الى «زوال لبنان».
هل يشاطر المسؤولون اللبنانيون ماكرون خشيته ومخاوفه؟ وهل سيستمعون الى نصائحه ويعملون ببعض أفكاره؟ ربما قلة منهم ستفعل.
الرئيس ميشال عون دعا في كلمته، لمناسبة «مئوية لبنان الكبير»، إلى تخطي النظام الطائفي والانتقال الى الدولة المدنية. مثله فعل الرئيس نبيه بري، بخطابه في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، بإدانته النظام الطائفي والمناداة بالدولة المدنية. غير أنه دعا، فوق ذلك، الى قانون جديد للانتخابات على أساس الدائرة الوطنية الواحدة وإنشاء مجلس للشيوخ الى جانب مجلس النواب يختص بالقضايا المصيرية.
ماكرون لم يكتفِ بحضّ المنظومة الحاكمة على إجراء إصلاحات جذرية في النظام السياسي فحسب بل اتصل أيضاً بكلٍّ من الرئيسين عون وبري وكذلك بسعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع حاثّاً إياهم على تزكية السفير مصطفى أديب لتشكيل الحكومة الجديدة. هؤلاء جميعاً استجابوا باستثناء جعجع الأمر الذي فُسّر بأنّ أصدقاء الولايات المتحدة في لبنان لا يسيرون بالتوليفة الفرنسية.
قوى وطنية متعدّدة معادية لأميركا عبّرت أيضاً من خلال النائب أسامه سعد عن رفضها للتوليفه الفرنسية. ذلك كله سينعكس سلباً بالتأكيد على مهمة مصطفى أديب وقد يؤخّر تأليف الحكومة.
هذه المواقف المتناقضة من مسألة تكليف مصطفى أديب وتركيبة الحكومة الجديدة تترافق أيضاً مع جملة تحفظات وعوامل معرقلة أبرزها ثلاثة:
أوّلها، عدم ثقة عموم الناس بالطاقم السياسي بكلّ تلاوينه، وإصرار القوى الوطنية الشبابية على عدم الوثوق وبالتالي عدم التعامل مع المنظومة الحاكمة بكلّ أطرافها وبضرورة متابعة معارضتها ومحاولة إزاحتها دونما هوادة.
ثانيها، انقسام أطراف المنظومة الحاكمة على نفسها وصعوبة توافقها على تسوية تنطوي على بعض التنازلات الاقتصادية والسياسية الملموسة بغية تدارك الانهيار المالي والاقتصادي الكامل، تمهيداً لوضع البلاد على سكة التعافي.
ثالثها، تعاظم وتيرة الهجوم الصهيوأميركي على أطراف محور الممانعة والمقاومة، لا سيما على حزب الله بما هو قوام المقاومة الجدّية الفاعلة بعدما أصبح قوةً محلية وإقليمية وازنة.
تخشى القوى الوطنية والتقدمية في لبنان كما القياديون المستنيرون والساعون الى إجتراح المخرج – التسوية سالف الذكر، ان يلجأ قادة الهجوم الصهيوأميركي مع انصارهم المحليين الى تأجيج الخلافات والانقسامات والاضطرابات الداخلية وصولاً إلى تعطيل المساعي الهادفة إلى قيام حكومة وطنية جامعة وذلك بقصد تعميم حال من الفوضى والاقتتال يضطر معها حزب الله إلى الاستدارة لحماية ظهره داخلياً ما يؤدّي ــ في ظنّهم ــ إلى انحسار مقاومته وتهديــده لـِ «إسرائيل».
هذا التحدي الخطير قد يتفرّع عنه احتمالان شديدا الخطورة:
(أ) أن ينتهز بعض القوى الطائفية، بدعم من قوى خارجية معادية، حال الفوضى التي يمكن أن تعمّ لبنان للسيطرة عسكرياً على مناطق معينة تريدها نواةً لنظامٍ فدرالي او كونفدرالي، وتتمسّك بها لتعزيز مركزها التفاوضي إزاء الحكومة المركزية في بيروت وحيال القوى الوطنية المعادية لأيّ تقسيم للبلاد تحت راية فدرالية او كونفدرالية.
(ب) أن تتحالف القوى الوطنية مع حزب الله لمنع تقسيم البلاد ولمجابهة مخاطر المسّ بالمتطلبات المعيشية الحياتية للشعب (غذاء ودواء ووقود) وذلك بالانفتاح الكامل، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، على سورية لمواجهة الهجوم الصهيوأميركي وخطته الرامية إلى تجاوز مخطط سايكس – بيكو الذي نجح في تقسيم بلاد الشام جغرافياً والساعية حالياً لتقسيمها ديموغرافياً (سكانياً) بإثارة العصبيات المذهبية والاثنية بغية إقامة دويلات أو جمهوريات موز متناحرة وعاجزة تالياً عن مواجهة الكيان الصهيوني.
هذان الاحتمالان بل التحديان شديدا الخطورة ويستوجبان ارتقاء القوى الوطنية بمقاومتها للهجوم الصهيوأميركي في بلاد الشام كلها، ايّ سورية ولبنان والأردن وفلسطين، كما في بلاد الرافدين، الى مستوى عالٍ من التنظيم والتسليح والمقاومة والتكامل بنَفَس طويل لغاية إجلاء الوجود الأميركي عن كلّ بلاد المشرق العربي عاجلاً او آجلاً.
هذا الهدف ليس فوق طاقتها.
_ * نائب ووزير سابق