الأدب الوجيز هويّة تجاوزيّة جديدة
} الشاعر الراحل أمين الذيب*
يُشكّل الأدب بطبيعته الدلاليّة، موقفًا ثوريًّا حاسمًا في مسألة الجدل النقديّ والأكاديميّ الحاصل منذ السبعينيات حتّى يومنا هذا. الفصل بين مفهومين لهذا الأدب التجاوزيّ، مفهومٌ متردّدٌ إزاء أيّ إبداعٍ جديدٍ بحكم تعلّقه بالماضويّة كثابتٍ، ومفهوم الحداثة غير المتأثّر إلّا بما هو جديد، يبني حداثته التراكميّة التجديديّة، على قاعدة أنّ التطوّر حالةٌ إنسانيّةٌ مُلحّة، لذلك نجده منحازًا إلى شهوة التغيير والإبداع، كما يقول أدونيس.
هناك مدى واسع من الآراء النقديّة، شأن أيّ تجديدٍ يحدث على ساحاتنا الشعريّة والقصصيّة والرّواية والمسرح وباقي الفنون، بات يصعب تحديده وتوصيفه تحت تجنيسٍ أدبيٍّ مُحدّد، وهذا لا يعود إلى إشكاليّة النصّ التجاوزيّ بقدر ما يكون أحيانًا ضحيّة بعض الآراء النقديّة الّتي لا تقبل بسهولةٍ بأيّ حدثٍ جديدٍ لوقوعها تحت تأثير الماضويّة وتسعى إلى تخليدها بقتل ما يمكن أن يتفرّع أو يتطوّر خارج إطار مفاهيمهم الثّابتة.
انبرى شعر الومضة لينتزع مساحاتٍ هامّة، كأنّما هو خُلاصاتٌ مُكثّفةٌ لتجربة الشّعر، وكانت كثافته دليل بلوغٍ معرفيٍّ يُتقن التّواصل بين الشّاعر والحياة، بأقلّ الكلمات وأوسع المعاني فكان شعر المعرفة بامتياز.
يرتشد كِلا شعر الومضة والقصة القصيرة جدًا بالإيجاز والكثافة ويشتركان في الترميز بديلاً عن الإسهاب السرديّ.
ظهرت القصة القصيرة جدًا، كجنسٍ أدبيٍ جديد، استجابةً لمجموعةٍ من الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة المُعقّدة، تمتاز بقصر الحجم والإيحاء المُكثّف، تعتمد التلميح والاقتضاب وتجنح نحو التجريب والتصوير البلاغيّ الّذي يتجاوز السرد المُباشر إلى ما هو مجازيّ وبيانيّ، ورغم تباين آراء النُقّاد حولها، فقد أجمعنا على تسميتها الرّاهنة، وذلك لتوافر السرد القصصيّ، والكثافة ذات الأبعاد الإيحائيّة.
وإذا عدنا الى المعيار الفنيّ التقنيّ نجد أنّ الخاصيّة القصصيّة والمقوّمات السرديّة كالأحداث والشخصيّات والفضاء المنظور والبُنية الزمنيّة وصيغ الأسلوب، كلّها توظّف بكثافةٍ رمزيةٍ إيحائيّة، تجعل القارئ يبذل جُهدًا كي يتفاعل مع النصّ ومدلولاته، في الشكل يعتمد نص القصّة القصيرة جدًّا، على تحفيز ذاكرة المُتلقّي وحثّ خياله تماهيًا مع طبيعة النصّ الومضيّ، لما ينتابهُ من تأويلٍ وتفسيرٍ واستنتاجٍ إيديولوجيٍّ بخاصّةٍ عند الروائيّ المغربيّ حسن رطال، في الثأر، وماسح الأدمغة وسواها، حيث تُضفي خاصيّة الاختزال والتوازي والتشظّي البنائي الانكسار التجريبيّ كمقوماتٍ أدبيّةٍ راقيةٍ ومُتقدّمة.
إنّ أسلوبيّة النصّ في القصّة القصيرة جدًّا، تتماهى مع المذاهب والأجناس الأدبيّة الأخرى كافةّ، ولكن بأسلوبٍ موجزٍ وقصير، يثير القارئ لقدرتها على تصوير الذات في صراعها مع كينونتها الداخليّة والخارجيّة.
كلا الجنسين الأدبيّيَن إذًا يشتركان في التكثيف والإيجاز والإدهاش والترميز والدّلالات الومضيّة، وهذه التجانسات ترمز إلى تجاوز الرّاهن تجاوزًا يكاد يكون تامًّا.
والأدب الوجيز ليس فقط مجاراةً للعصر المنغمس في حيثيّة التواصل الاجتماعيّ، بقدر ما هو حالةٌ معرفيّةٌ مُكثّفةٌ تشقّ مدارك المعرفة الّتي هي قوّةٌ فكريّةٌ وفلسفيّةٌ تطبع المجتمع بطابعها، كمرحلةٍ تجاوزيّةٍ مُلحّة.
ولم تتكوّر فكرة الأدب الوجيز لتكون طرحًا أدبيًّا من بين طروحاتٍ كثيرةٍ تدعو إلى التّجديد، بل جاءت لتسلّط الضّوء على حجم الرّكود الذي تشهده السّاحة الأدبيّة بعامّة، والشّعريّة بخاصّة، رغم التّدفّق الغزير لنتاجات عدد غفير من الكتّاب والشّعراء، كما جاءت لتطرح بديلًا جديدًا تأصيليًّا وتجاوزيًّا ونقديًّا. بعبارة أخرى، كان لا بدّ من حركة نقديّة تشير إلى مواطن الخلل بحِرَفيّة عالية ومصداقية نادرة وتَبَيُّنٍ جليل وتبصّر عميق، حركة نقديّة قادرة على تشخيص الدّاء الذي تعاني منه الثّقافة الأدبيّة بدقّة، فتتعهّده بالعلاج المُلائم. بيد أنّ قطب الرّحى يكمن في هذا العلاج بالتّحديد.
إنّ الاعتراف بالمأزق هو جزء لا يُستهان به من علاج المأزق. وما يميّز حركة الأدب الوجيز أنّها استطاعت تشخيص الدّاء وتقديم الدّواء في آنٍ معًا.
فمن جهة، نجح الأدب الوجيز في قول ما لم يجرؤ الكثيرون على البوح به، رغم اقتناعهم به ضمنًا، لكن ربما كانت تُعوزهم الجرأة أو القدرة على فضح التّكرار الذي بات يستهلك كلّ ما يُكتب، والاجترار الذي لا يني يعيد الجمل الشعريّة نفسها ويمضغ التّجارب عينها شكلًا ومضمونًا. إنّ النّجاح الأوّل والباهر الذي يُسجّل للأدب الوجيز يتمثّل في تحديده مواطن الخلل بدقّة، واعتباره السّائد غير كافٍ لتحقيق نقلة نوعيّة في مجال التّجربة الأدبيّة بعامّة والشّعريّة بخاصّة. وعليه كان لا بدّ من إيجاد بديل جديد بالتّمام يحمل معه أقصى إمكانات القول المكبوت والرؤى المعلّقة بانتظار فتح ثقافيّ قادم.
ومن جهة أخرى، تكمن أهمّيّة الأدب الوجيز في اجتراحه آفاقًا رؤيويّة جديدة بالتّمام، وذلك بالتّزامن مع شكل تعبيريّ جديد يُحدث قطيعة إيجابيّة مع كلّ ما سبق، وأقول قطيعة إيجابيّة لأنّ الأدب الوجيز لم يَدَّعِ يومًا أنّه اختطّ فكرته هذه من عدم، وإنّما يرى أنّها انبثقت نتيجة تأمّل عميق في التّاريخ الأدبيّ الموغل في القدم (التّراث السّومريّ، اليونانيّ…)، حيث لم يخلُ أيّ أدب من الآداب العالميّة على مرّ التّاريخ من الإشارة إلى هذا النّوع من الأدب سواء اضطلع بها شاعر أو أديب بعينه أو كوكبة من المشتغلين في حقل الأدب. لكنّ هذا النّوع من التّعبير الأدبي لم يلحظ يومًا شكلاً مستقلًا، لكأنّه كان نواة عميقة انتظرت عصورًا طويلة ليتمّ الكشف عنها، وجوهرًا خبيئًا اعتلن أخيرًا في الحقبة المعاصرة.
باختصار، تكمن قيمة الأدب الوجيز في كونه يُشكّل طرحًا جديدًا وتجاوزًا محضًا. إنّه شكل تعبيريّ جديد بالتّمام، لكنّه شكل مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمضامين رؤيوية مغايرة فتحت مجال القول أمام ما كان مستغلقًا. وميزة هذا الأدب أنّه لا يقع في فخ التّكرار، لأنّ كلّ ومضة أو قصّة قصيرة جدًّا تملك بنيتها التّكوينيّة بحيث يتعذّر اجترارها مضمونيًّا وأسلوبيًّا، فلا نعثر على سياقات جمليّة متشابهة أو أنساق تعبيريّة متماثلة.
لقد فتح الأدب الوجيز المجال أمام نقلة نوعيّة في الحقل الأدبيّ ستعي الأجيال القادمة أهمّيتها، وستعرف أنّ التّجاوز الذي نادى به مؤسّس الملتقى لم يكن كلامًا تجريديًّا بقدر ما كان استشرافًا عميقًا لحاجة مجتمعاتنا المُلحّة إلى هذا النّوع من الأدب.
* كلمة مؤسس الأدب الوجيز الراحل الأستاذ أمين الذيب في افتتاحيّة المؤتمر التأسيسيّ للملتقى في ٢٠ حزيران 2019».
**ملتقى الأدب الوجيز.