لماذا يتجنّب الأميركيّون الصدام مع الفرنسيّين في لبنان؟
} د. وفيق إبراهيم
يبدأ المشروع الفرنسي في لبنان انطلاقته وسط احتجاب سعودي ملحوظ، وتلكؤ أميركي متعمّد، واطمئنان إيراني صامت، وصبر سوري يعرف مدى حاجة الفرنسيين إليه إنما بعد عودة لبنان الى الاستقرار حتى النسبي منه.
فإذا كانت ردود الفعل الإيرانية والسعودية منضبطة ضمن الاداء الرزين والإيجابي الذي يقدمه حزب الله، فان السياسات الأميركية والسعودية لا تبدو واضحة على سلوك القوى اللبنانية المنتمية اليهم.
فها هو رئيس الحكومة السابق سعد الحريري شديد الابتهاج من هذا الدور الفرنسي، لأن معلومات تلقاها مؤخراً وأفادته بان حكومة اديب المرتقبة هي الآلية المنتقاة لإعادة تركيب الداخل اللبناني على نحو يؤمن الاستقرار للحكومات المقبلة لسعد الحريري، لأن هناك اعتقاداً شائعاً يجزم بأن الدكتور مصطفى اديب لن يشكل زعامة سنية منافسة معتكفاً في إطار أكاديميته ودبلوماسيته.
هناك مظاهر توحي بأن القرار الإقليمي – الدولي صدر لمصلحة حكومة اديب، فكيف يمكن للمفتي دريان استقباله في مركز الإفتاء الشرعي كما فعل امس الاول، لولا اشارات إيجابية سعودية وأخرى من الحريري وصلت اليه مع طير الحمام كما تقول العامة؟ وكان دريان تمنّع عن استقبال رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب عن تشكيله لحكومته معمّماً بأنه لا يمثل الطائفة السنية.
هناك ظاهرة ثانية تكشف عن الرفض السعودي لحكومة أديب مع عجزهم عن الجهر به على وسائل الإعلام كما يفعلون عادة، والسبب مرتبط بالتهدئة الأميركية الحالية التي تترقب نتائج الحركة الفرنسية إنما من دون العمل على دعمها.
كما أن رفض حزب القوات اللبنانية الذي يقوده سمير جعجع تكليف السيد أديب لتشكيل الحكومة ليس قراراً لبنانياً صرفاً بقدر ما يعكس ربط نزاع أميركي مع الفرنسيين واستجابة لتعليمات وصلت حديثاً من ارتباطاتهم السعودية في لبنان والمهجر الخليجي، كما أن مشاركة القوات في التظاهرات الشعبية التي تزامنت مع جولة الرئيس الفرنسيّ ماكرون في اسواق بيروت ومرفئها، تسجل رسالة سعودية – أميركية الى الفرنكوفونية الساعية الى العودة للبنانها التاريخي الكبير. فكيف تبدو هذه العلاقات الثلاثية بين فرنسا والسعودية والأميركيّين بالتوازي مع إعلان ماكرون انطلاقة المشروع الفرنسي في لبنان؟
ميزان هذه الثلاثية هي العلاقات بين باريس وواشنطن لأن ما ينتج عنها تطبقه السياسة السعودية في لبنان.
هنا لا بد من التأكيد ان النفوذ السعودي في لبنان كان مدعوماً من النفوذ الأميركي العالمي الذي اولاه شؤون هذا البلد منذ مرحلة الراحل رفيق الحريري وما لهذا الأخير من قدرات سهلت للسعوديين بناء علاقات عميقة مع معظم رؤساء لبنان السابقين والإفتاء والبطريركيات وقادة الجيوش والمحاور السياسيّة الأساسيّة من مختلف المذاهب ومن دون استثناء، الا ان هذه المرحلة سجلت تراجعاً للحريرية لسببين:
صعود الدور الإقليمي والفلسطيني والداخلي لحزب الله ومحاولات حليفه التيار الوطني الحر استعادة النفوذ المسيحي في الدولة، المسيطر عليه من قبل الحريرية السياسية.
هذه المرحلة اتسمت بتراجع كبير للدور السعودي مع محاولات تركية وإماراتية لحيازة اقسام اساسية منه.
ولم يكن الدور الفرنسي جاهزاً للتدخل في تلك المرحلة لغياب التأييد الأميركي والاوروبي ورفض السعودية.
إلا أن أموراً دولية طرأت وأدت الى تعزيز الدور الفرنسي على مستوى الصراعات العالمية بين المحاور الأميركية الصينية الإيرانية الروسية.
هذا التطور انبثق بعد نجاح فرنسي ألماني انجليزي بتشكيل محور أوروبي ليس معادياً للأميركيين ولا منصاعاً لمنافسيهم، لكنه يفضل العمل على “القطعة” احساساً منه باتجاه العالم نحو نظام قطبي جديد متعدد. وهذا يعني تراجعاً أميركياً لن يصل الى حدود الانهيار، لكن بإمكان اوروبا الاستفادة منه لتحسين مواقعها.
إن ما أثار رعباً أميركياً فعلياً، ما حدث في منظمة الامم المتحدة في مجلس الأمن الدولي، عندما امتنعت اوروبا بكاملها عبر مركزيتها الثلاثية فرنسا ألمانيا وانجلتره، عن تأييد قرار أميركي بمواصلة حصار إيران.
ورفضت مرة ثانية بعد أقل من عشرة أيام وفي مجلس الامن الدولي طلباً أميركياً جديداً بتجديد حظر دخول السلاح الى ايران، استناداً الى بنود الاتفاق النووي الذي بدأ العمل به في 2015.
هذا ما استجلب غضباً أوروبياً روسياً صينياً على الأميركيين، فردّوا قائلين للأميركيين بأن حقوق المطالبة بتطبيق بنود الاتفاق النووي تنحصر في أعضاء هذا الاتفاق فقط وهم روسيا والصين وفرنسا وإنجلتره وايران والمانيا.
اما بالنسبة للأميركيين فانسحبوا من عضوية هذا الاتفاق في 2018 مطالبين بتدمير الاتفاق النووي وقطع العلاقات المتنوعة مع الجمهورية الاسلامية، فكيف يجيزون لأنفسهم ممارسة حقوق هي حصرية للأعضاء وهم لم يعودوا على هذا النحو.
هذا التمركز الأوروبي ضمن مصلحة قارتهم العجوز، هو الذي استولد دوراً للفرنسيين في لبنان عبر الاستفادة من ثلاثة عوامل: العداء الأميركي – الإيراني وامتداداً مع حزب الله، والدور الفرنسي التاريخي بين فئات لبنانية لا تزال ترتبط ثقافياً بفرنسا “الفرنكوفونية” واخيراً ضرورة وجود لبنان على سواحل البحر الابيض المتوسط لتعزيز أدوارها في الحروب المقبلة على الغاز من جهة وإعادة إعمار منطقة سورية، العراق – إيران – اليمن من جهة ثانية.
لذلك يبدو الدور الفرنسي في لبنان أعمق من حنين الى فيروز وجبال جاج الجبيلية، ولقاءات الجميزة، ليسجل محاولة فرنسية للإمساك بالسياسة اللبنانية لتحسين الداخل اللبناني من جهة والاهتداء به للوصول الى الإقليم من ناحية ثانية.
هذا يزعج السعودية في المقام الأول والإمارات وتركيا في الدرجة الثانية، لان الدور الفرنسي بالاتفاق مع حزب الله يلغي أي مكان لقوى إقليمية أخرى، على اساس انشاء معادلة فرنسية – ايرانية بتأييد أميركي يجد نفسه مضطراً للاعتراف بموازين القوى اللبنانية، كما فعل الفرنسيون. وهذا من الشروط الضرورية لنجاحهم.
فهل ينصاع السعوديون لهذه المعادلة؟
تظاهرات الشغب التي حدثت منذ يومين هي بتمويل من مناصري اشرف ريفي وبهاء الحريري والمشنوق، لا شك في أنها بتعليمات منهم.
لكن لا قدرة لها على الاستمرار بالاستثمار في الفوضى لأن الحكومة الجديدة قادرة على ضبط المتفلتين في الشوارع ومناطق خلدة وبعض أنحاء البقاع الغربي بنوعين من الأساليب، العمل الحكومي الجاد على مستوى إنقاذ الدولة سياسياً واقتصادياً على ان تتولى المؤسسات الأمنية ضبط الشارع.