هل تنجح فرنسا أو صيغة البوسنة والهرسك؟
} منجد شريف
لم تثبت الزيارة الثانية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، غير ثابتة واحدة، أنَّ اللبنانيين يعيشون إزدواجية الهوية، بين المكون الجغرافي والولاء الطائفي، وأنَّ أيّ صيغة دستورية أو أيّ اتفاق لا يمكن تطبيقه من دون توافق بين الطوائف، وهو الأمر المتعثر دائماً، بسبب الاختلافات الحادة في وجهات النظر في شكل الدولة وماهيتها وكيفيتها، وعليه فإنَّ وجود الراعي الدولي أو الإقليمي لازمة لا بدّ منها في خلق الاستقرار السياسي، والذي تندرج منه حلحلة كلّ العقد، وهذا ما ترجمته مرحلة ما بعد الطائف، وما تتمّ ترجمته اليوم.
لكن الفارق بين الرعاة هو المكانة الدولية للدولة الفرنسية، والدور الذي بإمكانها لعبه في لبنان، خاصةً أنها الدولة التي ساهمت في ولادة لبنان الكبير، وانتدبته ومنحته استقلاله، وما زال دستوره وكلّ قوانينه مستوحاة من روح الدساتير والقوانين الفرنسية…
كلّ هذا ما شكل حافزاً للرئيس ماكرون ليجد في الذكرى المئوية مدخلاً مهماً لإعادة النظر في كيفية الممارسة في كلّ مؤسسات الدولة، تشكيل الحكومة، إصلاحات أولية في الشؤون الاقتصادية والحيوية، والتأسيس لإصلاحات جذرية في النظام. وشكلت زيارته للسيدة لفيروز مدخلاً آخر أراد من خلاله الإيحاء بمحبته لكلّ الشعب اللبناني، لما تمثله فيروز من قاسم مشترك عند الغالبية منهم، وأنه لم يأتِ ليدعم هذا على ذاك، بل أتى لينقذ لبنان من الانهيار والزوال.
عرف الرئيس ماكرون أنَّ المدخل لتصويب العمل السياسي في لبنان يبدأ في حلّ عقدة الفساد، ذلك الفساد المتجذر في كلّ هيكلية الدولة والإدارات، وأبرزها الكهرباء، فلا يُعقل لدولة مثل لبنان أن تبقى حتى اليوم من دون كهرباء، وذلك بسبب المنافع التي تجنيها بعض شركات النفط التابعة لفريق من السياسيين، غير أنّ ملف الكهرباء لا يقلّ أهمية عن رزمة الإصلاحات التي تتطلبها كلّ إدارات الدولة ومرافقها الحيوية، وعلة العلل في تنفيذ الإصلاحات هي العقدة الطائفية، فالطائفية والمذهبية شكلا متراساً لكلّ من سوّلت له نفسه نهب المال العام، فسرعان ما كان يجد فيهما حصانة لعدم المساس به، وهذا ما أتى على خيرات البلاد ومدّخراته من الاحتياطات، يُضاف إليها الأحداث الدولية والإقليمية، وما نتج عنها وما زال من تأثيرات في الداخل، وعلى التوازنات، وفريق مع وفريق ضدّ، وعودة الى ٦ و٦ مكرّر، فضلاً عن الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» وتطوّراته وليس آخرها «صفقة القرن»، وانقسام اللبنانيين بين خياري الحياد والمواجهة، وإفرازات تلك الجدلية وما سبّبته من اختلافات حادة في وجهات النظر عن ايّ لبنان في التركيبة العالمية. والدور الفرنسي على أهميته، أمامه عقدة الفيتو الأميركي في وجه حزب الله وأنشطته، وتمسكه بتطبيق القرار ١٥٥٩ ومحاولته تعديل القرار ١٧٠١، وهنا تكمن المشكلة، فهل للفرنسي أن يتجاوز هذه العقدة؟
ثم ماذا عن الموقف الأميركي في حال فوز دونالد ترامب مرة أخرى في الرئاسة الأميركية، وماذا عن استمراره في الضغط على حزب الله وتطويق دوره الإقليمي، ومحاصرته في الداخل اللبناني، من خلال الاستمرار في الحصار الإقتصادي، هذه تساؤلات تجعلنا أمام واقع فريد، أنَّ تجاهل الضغط الأميركي غير وارد، لأنّ قواعد التحكم برمّتها بين يديه، والدور الفرنسي إنْ كُتب له النجاح فذلك يعتمد على قدرته في تليين الأميركي وإقناعه بأولوية إنقاذ الدولة اللبنانية، وهذا يعتمد أولاً وأخيراً على الدور الذي بإمكان فرنسا لعبه بين أميركا وإيران، للحصول على تنازلات بين الأفرقاء في لبنان، من أجل عودة الروح الى الحياة السياسية، وتذليل العقبات من امام الحكومة العتيدة، للسير بالعجلة الاصلاحية والتعافي المالي، وتحقيق نقلة نوعية تسهم في إعادة بناء الدولة والثقة عند المواطنين، وهذا كله مرتهن بالدور الفرنسي وما يمكن أن يقدّمه على هذا الصعيد، وإلا فلا فرص بعدها غير الفوضى التي لاحت تباشيرها في أكثر من مكان، وما يمكن أن ينجم عنها من تغيير في النظام السياسي، فالذكرى المئوية قد تؤسّس لمرحلة جديدة في هوية الكيان، وربما فشل تطبيق النظام اللبناني في البوسنة والهرسك، يكون تطبيق ما طبق هناك، لكن هل يسمح حجم لبنان بتطبيق ذلك النموذج؟!
أيّ إعادة رسم المتصرفية في جبل لبنان والإبقاء على الرئيس المسيحي وفصلها دستورياً، والإتفاق على الحكم بين السنة والشيعة في باقي المساحة، فهل هذا ممكن ومسموحاً به؟! تبقى الإجابة في تطور الموقف بين الأميركي والإيراني وما قد ينجم عنه من تسويات أو مزيد من التصادم والتوترات!؟